بحث في هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 26 أغسطس 2013

         الربيع الصامت-1               6/12/2010

د.مفتاح بوعجاج






     يقال أن احد المعمرّين الطليان الذين استوطنوا ليبيا   او بالأحرى ارادوا الاستيطان في ليبيا أبان فترة الاستعمار الايطالي ، التقى في الفترة الأخيرة (بعد خروجه إلى بلاده ايطاليا بالطبع) ، التقى مع احد الليبيين في ايطاليا وسأله عن حال الزراعة في ليبيا ؟ فأجابه الليبي بأن الدولة الليبية عملت الكثير من المشاريع الزراعية فقاطعه الإيطالي قائلا :عندما كنا في ليبيا في العشرينات والثلاثينات عندما كنا نقوم بإنشاء المزارع وزرع الحبوب والأشجار، كانت هناك رياح جنوبية تأتينا من الجنوب وكانت إحدى المشاكل التي واجهتنا لتطوير الزراعة في ليبيا في ذلك الوقت هي تلك الرياح ولكننا خرجنا قبل وضع حل لتلك المشكلة وكان يطلق عليها السكان المحليون اسم (القبلي).. فماذا فعلتم بها بعدنا وماذا فعلت بكم؟.... (لا أجابة)...

    يبدو أنها في ذلك الوقت كانت رياحا فقط.. أما اليوم فهي رياح محملة بالاتربة مختلف الألوان والرمال وكذلك محملة بكافه منتجات الحضارة الحديثة من نايلون وبلاستيك وأوراق ومذكرات وبقايا امتحانات وكراسات وكتب مناهج تم إلغاؤها وما اكثرها وبقايا جوالات الأعلاف وأحيانا عبوات بلاستيكيه لمشروبات الكوكاكولا والبيبسي كولا وحتى السعادة الزرقاء التي قد تضرب وجهك إن لم تأخذ حذرك وخاصة وأنت تحاول ان تتمشى أخذا بنصيحة الطبيب في أن المشي قد يخفف الوزن.. ويخفف من الكولسترول في الدم.. فلا أنت تعرف ان تتقى تلك الأشياء الطائرة مع الريح أو أن تنظر تحت قدميك خوفا من ان تقع في إحدى الحفر الناتجة عن الحفريات المستمرة منذ أكثر من ثلاثين عاما في مختلف الاتجاهات وكافة التخصصات وخاصة وان الرؤية فى هذه الظروف لا تتعدى ذراعا.

   انني ما أردت بهذا إثارة الضحك بقدر ما يحزنني حال البيئة في بلادنا .. وما يحزن أكثر هو تعود الناس على مناظر تلك الجبال من القمامة وتلك الأراضي التي تم تجريدها من الغابات ومناظر أشجار الغابات التي أصيبت بالجفاف ، ، ،وجفاف وتلوث عيون المياه التي كانت تغذي قرى بكاملها من بشر ودواب (واسألوا أهل الذكر عن معطن سلوق( عين بلغرب) وعيون خارقه والبويضة والوسيطة وعين الجنين وغيرها الكثير). والتصحر الذي طال كل شيء وخاصة فى المناطق التي كانت معروفه فى بلادي بجمالها وغاباتها الخضراء وشجيراتها من بطوم وشمارى وعرعار(الشعرة) و غيرها من النباتات كما تم انقراض الكثير من الحيوانات البرية التي كانت تعيش فى هذه البيئة كالغزال والأرانب كما غادرت طيور النحل التي كانت تعيش في صمّ الجبال ولم يعد لها مكانا في تلك الوديان. فى جنوب الجبل الأخضر مناطق كانت تسمى (بالعقاير) والعقيرة هى منخفض كبير تتجمع فيه المياه لتنتج فيما بعد مرعى اخضر به كافة أنواع النباتات البرية وتصلح أيضا لزراعة الحبوب بأنواعها .. ذكر لى الكثير من المواطنين ان هذه السنة قد تجمعت بها الرمال بدل المياه او النباتات وهذا مؤشر على تغير سيء وسلبي لمسار البيئة.

       الآلاف من أشجار الزيتون والبرتقال والنخيل وأشجار الغابات والأشجار المثمرة الأخرى والغابات البرية من عرعار وخروب وشمارى وبطوم وما ينمو معها وبجانبها من نباتات بريه جميلة تم اقتلاعها.. وتم الزحف على الأراضي الزراعية ووصل التصحر إلى عمق الاراضى في الشمال. مياه المجارى بدأت تشكل انهارا تحرق الغابات وتلوث البحار وتخلق بيئة ملوثة للإنسان والحيوان والطيور.. لم تسلم المياه الجوفية والسطحية من تلوث مجارى البيوت العشوائية المجمعة في خزانات سوداء, في كتابها (الربيع الصامت)(Silent Spring) كتبت الكاتبة الأمريكية (راشيل كارسون)((Rachel Carson) والذي صدر منذ أكثر من أربعين عاماعن البيئة ويعتبر كتابها المذكور مرجعا علميا وأدبيا وكان له الأثر الواسع والعميق في لفت نظر العلماء والسياسيين والمواطنين إلى أهمية البيئة، كتبت تقول (كم أخاف ان يأتي الربيع القادم صامتا بلا طيور تغرد في الغابة، وتعج الصحراء بالجراد ويتشوه منظر النجوم والقمر).. 
      كتاب (الربيع الصامت) كتاب استقبلته حركات أنصار البيئة بفرح غامر إلا ان المستفيدين من دمار البيئة استقبلوه بفتور بل حتى بعداوة فى وقت كانت فيه البيئة علم غير منظور للناس .. حتى جاء الطوفان الذي بدأنا نشاهد بداياته ألان ، الظواهر البحرية الغير عادية (كظاهرة تسونامي)، كثرة العواصف التي تزداد عنفا والإمطار التي تتساقط فى مكان وتشح في مكان أخر حتى في البلد الواحد، بلادا بها ثلوج وبلاد أخرى بها نيران تشتعل..
      راشيل كارسن كانت كاتبة عاليه المعرفة فى التاريخ الطبيعي لمملكة الحيوان والنبات وكانت في ذات الوقت ناقدة اجتماعية ويعتبر كتابها أكثر الكتب تأثيرا والتي اعتبرته مجله (ديسكفرى) فى المقام الخامس والعشرين من بين أحسن الكتب لكل الأزمان. وكان لهذا الكتاب وما تنبأ به، تأثير ثقافي واسع أدى إلى الاهتمام بعلوم البيئة وإدخال المناهج التعليمية التي تساعد على جعل محور البيئة محورا إنسانيا تنمويا وطنيا لا يقل عن محور الصحة والتعليم فتأثرت مخططات مدنهم بوجود المساحات الخضراء وحتى الغابات داخل مخططات المدن كما جعلوا من ثقافة البيئة والمحافظة عليها جزءا كبيرا من مناهج التعليم والثقافة وحتى السياسة مما حدي بالكثيرين إلى تشكيل أحزاب ومؤسسات وجمعيات مدنية للمحافظة على البيئة ومنها أحزاب الخضر في أوروبا وامريكا كما تأثر الفن الغنائي والموسيقى بأعمال عن البيئة كانت لها ومازالت لها جماهيريتها مثل اغانى الفنانة جونى ميتشل (they took paradise and put a parking lot) في أغنية (big yellow taxi)(استبدلوا الجنة بموقف سيارات) وذلك تعبيرا عن الحزن لأنهم أزالوا جزءا من غابة هاواي وعملوا مكانها موقفا للسيارات .

    ألا ترون معي أن ربيعنا في الأعوام الأخيرة أصبح صامتا فعلا كما عبرت عنه الكاتبة بأقتدار .. وأرجو الله أن لا يكون التصحّر قد وصل حتى نفوس البشر ليفهموا ما أعني. وللحديث بقيه بأذن الله. 

ليست هناك تعليقات: