بحث في هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 10 نوفمبر 2022

جرد تاريخي للحالة الثقافية في ليبيا

تحت عنوان (التصحر الثقافي ) كتب الاستاذ (علي عُبيد  Ali Obaid ) على صفحته على الفيس بوك بتاريخ   22-10-2022 :

  الذين عاشوا حقبة الستينات يعرفون حجم الحراك الثقافي الذي كان يسود  البلاد رغم انتشار الأمية. المراكز الثقافية كانت تفتح أبوابها في كل مدينة ليبية، والمجلات والجرائد المحلية والعربية كانت تملأ المكتبات. أشهر الصحف الليبية آنذاك كانت طرابلس الغرب والرائد والبلاغ والشعب والحقيقة. إضافة للصحف المحلية، كانت الصحف اللبنانية والمصرية تملأ الاكشاك، وعادة شراء الجرائد والمجلات منتشرة بين المثقفين وأشباه المثقفين.

   لازلت أذكر، وأنا تلميذ في الرابع الابتدائي، كيف عثرت عند قريب لي، بالكاد يقرأ ويكتب، على أعداد من مجلة جيل ورسالة التي تصدرها الحركة الكشفية في ليبيا، وقرأت ذلك العدد الذي خصص لتأبين القائد الكشفي علي خليفة الزائدي رحمه الله وذكر مسيرته الكشفية.

   مجلة العربي كانت مركز ثقافي في مجلة، وكنا نراها عند مدرسينا في المرحلة الابتدائية، ولا يتردد هؤلاء المدرسون في قراءة بعض المواضيع لنا، حتى أننا عرفنا الدكتور أحمد زكي رئيس تحريرها قبل أن نعرف الكاتب الليبي الشهير صادق النيهوم.

   ببداية السبعينات كانت الثقافة في حالة ازدهار حقيقي؛ من منا لا يذكر مجلة الحوادث اللبنانية، تلك المدرسة الفذة في الصحافة، ومجلات النهار، والأسبوع العربي، وبيروت المساء؛ ثم الصحف المصرية مثل المصور، وآخر ساعة، وروز اليوسف، وحتى الشبكة والكواكب لمحبي أخبار الفن التافهة.

   مع منتصف السبعينات بدأت الصحف المصرية في الاختفاء نتيجة التناطح السياسي بين نظامي الحكم في مصر وليبيا. واختفت أيضا الصحف اللبنانية بسبب الحرب الأهلية، لكن فئة جديدة مدجنة، أغلبها لبناني، ظهرت على مسرح الثقافة أسمها الصحافة المهاجرة أغلبها بتمويل خليجي، فظهرت صحف الوطن العربي، والمستقبل، والكفاح العربي، والوسط، والمجلة.

    قبل أن تنتهي حقبة السبعينات دخلت على الخط الصحف الكويتية مثل القبس، واليقظة، والنهضة، التي رغم ابتذالها الذي يظهر على غلافها في صور نسائية جميلة، إلا أنها شكلت وجبة ثقافية معقولة، حتى أن مجلة النهضة بلغ توزيعها في سنة 1980م نحو ثلاثين ألف نسخة وهو رقم كبير في دولة مثل ليبيا.

    مع منتصف الثمانينات بدأ التصحر في الانتشار بسرعة، فاختفت الصحف الكويتية أيضا، بحجة التوفير في العملة الصعبة، ولم يكن النظام قادرا حتى على المحافظة على بعض المجلات الليبية الجيدة التي أنفق عليها أموالا طائلة مثل مجلة الثقافة العربية، ومجلة الوحدة.

    مع نهاية عقد الثمانينات لم يكن في ساحة الثقافة أكثر من صحيفتي الجماهيرية والزحف الأخضر، وبعض الصحف القزمية التي يسمونها الصحف القطاعية مثل الموظف والميزان والطالب، وهي في المحتوى لا تختلف كثيرا عن الصحف الحائطية في المدارس الإعدادية.

   نتيجة المبالغة في التطبيل والتمجيد المكرر إلى درجة القرف، لم تعد تلك الصحف تحظى بأي اقبال من القرّاء. ومن طريف ما يذكر في هذا الشأن أنه تم التوقف عن نشر أخبار الرياضة في صحيفة الجماهيرية، لأنها أخبار تخص صحيفة أخرى أسمها الرياضة الجماهيرية، فكان أن توقف معظم القرّاء عن شرائها إلى درجة أن ما وزعته بعد ذلك لم يتجاوز بضع مئات من النسخ في كامل مدينة طرابلس، مما اضطر هيئة التحرير إلى إعادة أخبار الرياضة.

     ببداية التسعينات أصبح المشهد الثقافي قفارا حقيقيا، خصوصا وأن حركة النشر قد توقفت هي الأخرى، والمسرح أصبح من الماضي، والندوات والملتقيات الثقافية لها هدف واحد هو التمجيد والتطبيل. إثر ذلك شعر النظام بحرج شديد من هذا التصحر فأسس مجلة غريبة اسماها لا. بدأت المجلة بمقالات ذات طبيعة نارية ممنهجة لكي توحي للقرّاء أنها صحيفة حرة، ولكن رغم مراقبة النظام لكل شيء إلا أنه لم يعد يتحمل هذه الفرقعات المصطنعة، فماتت بعد بضع سنوات.

    مع بروز برنامج ليبيا الغد والتهيئة للوراثة التاريخية فيما سمي الجماهيرية الثانية، ظهرت صحيفة أويا، وجند لها الموثوقون من كتاب السلطان، مع الاهتمام بالشكل والإخراج؛ لكنها بالقطع لم تكن قادرة على مكافحة التصحر، فقد استشرى في كل مكان، ولم يعد مجديا مكافحته بخطوة ارتجالية هنا وخطوة هناك.

    حدث الانفجار الكبير في سنة احدى عشر وتفاءل الكثيرون خيرا، وبرزت عشرات الصحف، لكنها سرعان ما انطفأت كما تنطفي الشموع الصغيرة، لأن الذين عاشوا التصحر الثقافي لعقود لا يدركون أهمية الثقافة، وليست من أولوياتهم، حتى وإن تناقضت توجهاتهم السياسية مع توجهات النظام السابق.

حتى هذه الساعة لايزال التصحر الثقافي مستمرا، رغم أن حكومات فبراير المتعاقبة خصصت وزارة لمكافحته أسمتها وزارة الثقافة، تبين في كثير من المناسبات أن لا علاقة لها بالثقافة