الحوار.. ليس معناه التشنّج والتعصّب لرأي واحد ، بل بدايته الإيمان بأنه مشروع لمحاولة الوصول إلى الحقيقة ، ولا يجب ان يكون مصحوباً بعاطفة هوجاء او أيديولوجية تؤمن انها تملك الحقيقة كاملة ، كما ان اول إشتراطاته المنهجية ان يتفق المحاورون على الإيمان ببعض الامور التي اصبحت اليوم من البديهيات وان لا نعود لنكتشف العجلة من جديد .. فجملة واحدة من الطيش والتشنّج الغير مستندة للحقيقة او البديهية ستزيد من الفرقة والخيبة والكراهية ...عندما بدأت النهضة الصناعية والاقتصادية فى بريطانيا كنتيجة لعصر النهضة والتنويرخلال القرن الثامن عشر في بريطانيا وقبلها في فرنسا ، والتى نرى إنجازاتها قد عمّت كل ارجاء العالم اليوم ، ونحن نقتني منتجاتها بدأّ ًمن ابرة الخياطة الى الطائرات والصواريخ والأقمار الصناعية عابرة القارات ، وجد رجال الأعمال ومدراء الشركات ومخطّطوا الاقتصاد والتنمية ذاك الوقت ، ان إحدى معوقات تلك النهضة والتنمية هى كثرة الجدل والجدال حتى فى اروقة المصانع والمكاتب والإدارات والشوارع والميادين (لم يكن يوجد قنوات واذاعات او وسائل أتصال إجتماعية كما هى اليوم) ، فتم دراستها كظاهرة (اجتماعية ) تستحق العلاج ، درسها علماء الاجتماع والنفس والإدارة وغيرها من العلوم الانسانية ،انبثق عنها التوصية بضرورة تشجيع الفنون والرياضة والآداب والمسارح وتوفير اماكن مخصّصة لها ، لتمتص بعض من تلك (المعارك) ، وتطوير مناهج التربية و التعليم بكل أشكاله وخاصة تضمينها مناهج (كيف نتحاور ) ، كما تم التوصية بضرورة وجود مكان خاص ليّتحدث فيه ( ألمتحدّثين والمهرّجين) عن ما يريدون بعيدا عن أماكن العمل ..فكانت نشأة حديقة (الهايد بارك الشهيرة فى لندن) (Hyde Park) ) عام 1872، مساحتها حوالي 40 هكتار، بها جزء كبير يسمى (ركن المتحدثّين ) (Speakers Corner) ، موجودا حتى اليوم ، ومثلها في باريس وفي نيويورك وكثير من المُدن الشهيرة ، تتحدّث فيها كما تريد وتقول ما تريد (بشكل سلمي طبعا) بشرط إحضار كرسيك او حتى سلّوم ،(شعراء ،سياسيون ،مهرّجون ،موسيقيون ،وعّاظ ،أدباء ،أحزاب وحتى (مجانين)،وينصت لك من يشاء ويصفق لك من يشاء ..وعندما تناسينا نحن دراسة هذه الظواهر الانسانية ،وحلولها العلمية من متخصّصين ،تحولت أوطاننا ، إلى هايد باركات كبيرة ومسارح وحتى الملاكمة والتمتيع ، وأشياء أخرى (مُزعجة) كثيرة ! ..وستظلّ ، إلى ان نعي الدروس والحلول (العلمية ) التى سبقتنا اليها الأوطان التي تقدّمت ، لكثير من مشاكلها الاجتماعية وحتى السياسية والأخلاقية والثقافية ، واكتشفت من خلالها مرضاها النفسيين وحوّلتهم إلى هذه (الكورنرات ) او المشافي ، بدل ان يكونوا في مقدمة الحديث والوعظ والحوارات عن الاوطان والتاريخ والتأسيس والهوية ، بل وحتى يحاولون ان يكونوا اليوم وللأسف من مؤسّسيها ...