بحث في هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 25 فبراير 2018

برج إيفل ...




...إيرادات السياحة اليوم في فرنسا ، 180 مليار يورو سنويا، يعني حوالي 206 مليار دولار(المليار راهو 9 أصفار) ،الحكومة و الدولة الفرنسية لا تنل منها إلا الضرائب القانونية لبناء البنى التحتية وما تتطلّبه الخدمات العامة في أدنى حدودها ، والباقي تذهب للعاملين بالقطاع الخاص بكل نشاطاته ..شركات نقل أرضي وجوي وحديدي، مطاعم ، فنادق ،دور سينما ،مسارح ، فنون ،صحافة وإعلام ،أسواق ، مكتبات ، مقاهي ،أكشاك، تأجير سيارات ، مصارف ، منتزهات ، حدائق وشركات الاتصالات بأنواعها ووو ..لو عندنا ، راهو صار إنقلاب كالعادة وتم تأميم برج أيفيل (أهم معلم سياحي في باريس وكل فرنسا) تحت شعارات التحرير والوحدة والحرية والاشتراكية ومحاربة الامبريالية والصهيونية او الجديدة كشعار( أسلمة الابراج) وتعيين (مُفتي) لتنظيم الزائرين حسب مُعتقداتهم و(مرابحة) الإيراد النقدي !.. ..وطبعًا ضم كل العاملين المذكورين للـ(القطاع العام) بمرتبات حكومية ممّا سيتطلب طبعًا مكاتب مراقبة مُحاسبية وإدارية وأمنية متعدّدة وإسهال تشريعي للقوانين واللوائح لمراقبة وحفظ (المال العام) !، وقعد البرج طبعًا من غير صيانة وطاله الصدأ و طاح من زمان ..فهو بناه المهندس الفرنسي غوستاف ايفيل عام 1889،والذي سيتلوه طبعًا إفلاس الدولة والجكومة والعجز الاقتصادي ،وظهور فلاسفة يطالبون بالعدالة في توزيع الثروة ،بدل إنشغالهم بأشياء (تافهة) مثل الثقافة والعلوم والتنوير والتعليم والبنى التحتية ، وكذلك كثرة طلاب العمل بالسفارات الفرنسية بالخارج والوظائف الحكومية ليتحصلّوا على نصيبهم من الثروة الحكومية ....و ما ورثناه وما نحن فيه ليس عن ذلك اليوم... ببعيد .. !

الاثنين، 19 فبراير 2018

أقوال تاريخية ..





"كم اتمنى من الله ان يبارك وان يكون بعون الاجيال الانية والقادمة من الشباب ، فهم من سيدفعون ثمن و ديون حماقاتنا اليوم "
"ان تكون سياسياً فهي وظيفة مُتعبة ، ان تكون خادماً للعامة ، فهي وظيفة نبيلة "
(هبربرت هوفر(Herbert Hoover 1899–1944) )( الرئيس 31 للولايات المتحدة الامريكية(1929-1933).. ايام عز الازمة الاقتصادية الامريكية )

التأسيس اولاً ....




..فترة الانتقاليات نحو صناعة دستور و تأسيس دولة وسلطة مدنية ، تحتاح مؤسسين وليس أحزاب او أفراد كل همّها السلطة والمال ..من يُعيب على العهد الملكي انه لم يسمح بتأسيس احزاب ، لم يتفطّن إلى ان هذا الامر كان له عديد الاسباب اهمّها :

* البلاد كانت حديثة الاستقلال ، كانت تحتاج لبناء مؤسسات ونمو ونُضج للمجتمع المدني ثقافة ومواطنة حتى يعي المواطن حقوقه وواجباته ، ويُحسن إختياره ،فكيف تؤسّس أحزاب لمجتمع به نسبة 90% امية ذلك الوقت !..
*مُعظم الاحزاب التي تكونت تلك الفترة كانت احزاب عابرة لمفهوم الوطن ،تنادي بشعارات تتناقض مع فكرة الوطن وهويته وتأسيسه .."بطونها هنا ورؤوسها في الخارج .." ..
*دستور الاستقلال كان دستورا مرناً يمكن تعديله عندما يحين الشعور بأن فكرة الاحزاب قد نضجت واصبح لها مشروع وطني ليبي يخص معالجة بناء وتنمية الوطن وليس رفع شعارات عابرة له تتوافق مع مصالح ومشاريع اخرى خارج الوطن ..تتقاطع مع مصالح الوطن الانية !..
*من يقول انه لو وُجدت احزاب في ليبيا عهد المملكة الليبية ، لما حدث الانقلاب ، نقول ان الانقلابات حدثت حتى في دول بها احزاب مثل مصر (1953) وسوريا (1949) فالانقلابات كانت عدوى مرضية عاطفية أصيبت بها المنطقة لاسباب كثيرة ..اهمها القضية الفلسطينية ، والتي للاسف مازادت القضية إلا رهقا وإنقساما واوجاع وتشتّت ..
* كان المشروع التنموي الوطني الليبي المؤسّساتي والثقافي والاقتصادي والتعليمي و بناء الهوية الليبية له الاولوية ذلك الوقت على كل شىء اخر، فالحياة اولويات وليس امنيات وشعارات وطزطزات ..
واخيرا من يقول ان الانجليز هم من نصّبوا الملك ادريس ، فهو تناسى او تجاهل او لايعرف ، نتائج اعمال الجمعية الوطنية التأسيسة ودستورها عام 1951 وميثاق الحرابي 1946 وقبله تاسيس الجيش السنوسي 1940 وقبله مبايعة كل الليبيين في المهجر للسيد إدريس السنوسي ليكونوا جميعاً تحت امرته من اجل تحرير ليبيا وقبله مؤتمر غريان للطلب منه ان يكون اميرا على البلاد ..واهم كل ذلك جهاد البطل عمر المختار ورفاقه والذي كان طول عمره يحمل ختم (الوكيل العام) يعني بذلك (السيد إدريس السنوسي ) وليس (وكيل الانجليز ) ! ..

السبت، 10 فبراير 2018

رؤية لواقع اليوم ..



   لا يستطيع احد ان ينكر ان إنتفاضات (الربيع) في المنطقة ، بما فيها 17 فبراير في ليبيا ، قد نجحت في التخلّص من أنظمة القهر والإستبداد والتخلّف وبثمن باهض ، وهذا لوحده حدث سيذكره التاريخ على انه إنجاز للشعوب عندما تتوحد في المطالبة بكرامتها وحريتها ، وان حدثاً قد حدث وأن إنتصاراً قد وقع ، ..ولا احد يستطيع ان ينكر ان إنتكاسات قد وقعت بعد ذلك الانتصار ، تفجّر النزاعات ، فساد بالجملة ، تدخلات اجنبية ، خيبات إقتصادية ، نزوح ، تشرّد ، قتل ، تهجير ، وغيرها ..هذا لا نستطيع تفسيره إلا بأن ذلك التحرّر قد اعطى الفرصة ايضاً لكثير من قوى الظلام والتشدّد والتطرّف ، خاصة تلك المدعومة من الخارج والتي لا تؤمن بمشروع الوطن ومؤسّساته وتاريخه وهويته ، وفي (دولة) لا تملك مؤسّسات أصلاً ، قد اعطاها ايضاً فرصة للتحرّر والانقضاض والقفز ، وخاصة ان مُعظمها قد حصل على تمويل وتأييد خارجي اكثر من القوى الوطنية المدنية التي كانت ضعيفة ومشتتة ولا تملك مشروعاً واضحا كما تلك ..هذا الامر مكّن ايضاً (للقوى الغيبية ) والمتخلّفة ، ان تأخذ لها مكاناً جديدا وسط المجتمع بحكم غياب الثقافة المدنية ، التي حوربت او شوّهت لاكثر من عقود إن لم تكن قرون ..المؤسف ان هذا الامر قد فتح الباب مجدّدا لبعض القوى (اليائسة ) والعاجزة عن فهم التطورات التاريخية للامم والمجتمعات ، وتدّعي (الثقافة )، ان تعود للتحسّر على (ايام الامن والامان) وحتى ايام (التصعيد) وشاركوا حتى بعض رموز النظام السابق الشماتة فينا ،ولتشارك مع تلك القوى في ضرب المستقبل ،وتعجز عن وضع تصوّر مشروع وطني جامع للدولة المدنية والكرامة والعدالة كهدف نبيل لتلك الانتفاضة ،رغم تلك الحرية التي أطلقت كل (القوى ) من عقالها ..ونسوا ان (الحرية المُنفلتة ) وبدون مشروع وطني ليبي به الاصالة والمُعاصرة ، لها اضرارها ايضاً ، وهذا ما نراه اليوم ونعيشه بكل وضوح وواقع ..

الجمعة، 9 فبراير 2018

ليس للارهاب إيمان ولا قلب :






ليس للارهاب مبدأ ولا قلب ولا إيمان :
كان الشاعر نزار قباني يلقى قصيدته في إحدى القاعات التي ضمت مهرجاناً شعرياً في بغداد عام 1962م فوقع بصره وهو يشدو بقصيدته على فتاة عراقية في العشرينات ،[جميلة المظهر والاخلاق، ،سأل عنها ، فعلم أنها (بلقيس الراوي) ، تعيش في الأعظمية في بيت يطل على نهر دجلة ، فتقدم لخطبتها من أبيها  ، لم يوافق ، فعاد نزار حزيناً إلى أسبانيا حيث كان يعمل في السفارة السورية.،ظلت صورة بلقيس تداعب خياله ولا تغرب عن باله ، بعد سبع سنوات عاد إلى العراق ليشارك في المربد الشعري وألقى قصيدة أثارت شجون الحضور ، وعلموا أنه يحكى فيها قصة حب عميقة ، فتعاطف معه الشعب العراقي بأسره ، كان يقول في قصيدته:

مرحباً يا عراقُ، جئت أغنيك ،وبعـضٌ من الغنـاء بكـاءُ
مرحباً، مرحباً.. أتعرف وجهاً ،حفـرته الأيـام والأنـواءُ؟
أكل الحب من حشاشة قلبي ،والبقايا تقاسمتـها النسـاء
كل أحبابي القدامى نسـوني ،لا نوار تجيـب أو عفـراءُ
فالشفـاه المطيبـات رمادٌ ،وخيام الهوى رماها الـهواءُ
سكن الحزن كالعصافير قلبي،فالأسى خمرةٌ وقلبي الإنـاءُ
أنا جرحٌ يمشي على قدميه ، وخيـولي قد هدها الإعياءُ
فجراح الحسين بعض جراحي ،وبصدري من الأسى كربلاءُ
وأنا الحزن من زمانٍ صديقي ، وقليـلٌ في عصرنا الأصدقاءُ
كيف أحبابنا على ضفة النهر ، وكيف البسـاط والنـدماءُ؟
كان عندي هـنا أميرة حبٍ ، ثم ضاعت أميرتي الحسـناءُ
أين وجهٌ في الأعظمية حلوٌ ، لو رأته تغار منه السـماءُ؟
نقلت القصة إلى الرئيس العراقي أحمد حسن البكر، فتأثر بها فبعث بوزير الشباب الشاعر شفيق الكمالي ووكيل وزارة الخارجية، والشاعر شاذل طاقة، ليخطباها لنزار من أبيها ، عندها وافق والدها فتزوجا عام 1969 ليعيشا أجمل أيام حياتهما. 
وبعد عشر سنوات من الزواج والترحال قال فيها قصيدة غناها كاظم الساهر مطلعها :
أشهدُ أن لا امرأة ً ،أتقنت اللعبة إلا أنتِ ،واحتملت حماقتي 
عشرة أعوام كم احتملتِ ، واصطبرتِ على جنوني مثلما صبرتِ 
وقلمت أظافري ،ورتبت دفاتري ، وأدخلتني روضة الأطفال 
إلا أنتِ ..
  وبعد أن استقر بنزار وزوجته المقام في بيروت ، حيث كانت بلقيس تعمل في السفارة العراقية ، حتى كان الخامس عشر من الشهر الأخير من عام 1981 ودعها نزار لتذهب إلى عملها وتصافحا فتعانقا فتفارقا ، فذهبت إلى عملها وذهب نزار إلى مكتبه بشارع الحمراء ، وبعد أن احتسى قهوته سمع صوت انفجار زلزله من رأسه إلى أخمص قدميه، فنطق دون شعور، قائلاً : ياساتر ياربي ، وما هي إلا دقائق حتى جاءه الخبر ينعي له محبوبته التي قتلت في الإنفجار ومعها 61 من الضحايا ، فكتب فيها قصيدة رثاء لم يكتب أطول منها في حياته، ولا أجمل منها في مسيرته الشعرية (هذه قصة الحب والإرهاب) ، إنها قصة تؤكد أنه ليس للإرهاب قلب ، وليس له مبدأ ، وليس له إيمان. 
جزء صغير من قصيدة "بلقيس":
شكراً لكم .. شكراً لكم . . فحبيبتي قتلت .. وصار بوسعكم ،أن تشربوا كأساً على قبر الشهيده ..
وقصيدتي اغتيلت .. ،وهل من أمـةٍ في الأرض .. - إلا نحن - تغتال القصيدة ؟ 
بلقيس ... كانت أجمل الملكات في تاريخ بابل 
بلقيس .. 
كانت أطول النخلات في أرض العراق 
كانت إذا تمشي .. ترافقها طواويسٌ .. وتتبعها أيائل .. 
بلقيس .. يا وجعي .. 
ويا وجع القصيدة حين تلمسها الأنامل ، هل يا ترى .. 
من بعد شعرك سوف ترتفع السنابل ؟ يا نينوى الخضراء .. 
يا غجريتي الشقراء .. يا أمواج دجلة . . 
تلبس في الربيع بساقها ،أحلى الخلاخل .. قتلوك يا بلقيس .. 
أية أمةٍ .. تلك التي ،تغتال أصوات البلابل؟
(رواية الاستاذ   Hannibal Neji Hellali  ..بتصرّف)

السبت، 3 فبراير 2018

الشاعر المُجاهد جبريل الرعيدي البرعصي ..



....من المعلوم أن المرحوم الشاعر جبريل الرعيدي ،قد قضى العشر سنوات الاخيرة من عمره في كنف عمي عباس الرعيدي وعمتي سالمه امجاور رحمة الله عليهما ,,,,
وفي الايام الماضيه في لقاء مع أبن عمتي الدكتور الفاضل عبد الجواد عباس طلبت منه تزويدي بما يعرفه عن الشاعر جبريل الرعيدي خاصة انه عاصره وكان قريبا منه بحكم ان الشاعر قد مكث ببيتهم مايقارب العشر سنوات الاخيرة من عمره  ،فتفضل علي مشكورا بهذا السرد عن الشاعر والمجاهد جبريل الرعيدي رحمه الله  :
 (جبريل الرعيدي كان يقيم عندنا
هو أحد أقاربنا ، وفي مقام جدّي ، ففي العشر سنوات الأخيرة من حياة الشاعر جبريل الرعيدي كان قد بلغ من العمر أقصاه فامتنع عن الخروج ولزم الفراش فتلقفه أبي وحمله إلى بيته ، إذ ليس هناك من يخدمه سوى زوجته الكبيرة في السن هي الأخرى وتحتاج إلى من يخدمها .. حملهما أبي معا ووضعهما في بيته يأكلان مما تأكل أسرته .. وأتاحت لنا فرصة وجوده أن سمعنا منه شخصيا معظم أشعاره المشهورة ، فقد كنت أخاطبه وأكتب عنه ، كان ذلك عندما أصبحت في السادسة عشر من عمري وأنا الآن في الحادية والسبعين ، أي منذ 56 عاما كان جبريل الرعيدي في بيتنا ، كانت به بقية من صحة تمكنه من الوقوف والوصول إلى الحمام، أما في الثلاث سنوات الأخيرة فكان يحتاج إلى من يسنده للوصول إليه .
في هذه العشر سنوات التي قضاها عندنا صار يبكي على أيامه الخوالي ، لا بالدمع ولكن بواسطة الشعر ، يبكي على أيام أن كان فيها قويا ، يضرع أطراف الأرض على حصانه أو مع الإبل أو حتى راجلا ، وكثيرا ما كان يقول ما أحَبَّ إليّ أكثر من سُرى الليل .. كان يستذكر أيام الجهاد مع أحمد الشريف قبل أدوار عمر المختار ، يتذكر الرفاق ويصف المواقف بكل دقة ، كان ذلك مولد قصيدته التي مطلعها :
ذاني عليهن سكاكير وعيوني عليهن ضبابة
و نا كنت نفرز الطير اللي بين فاضي وغابة
وانسوق في بنات المخاوير والخالي انقضو اصلابة
وانرافقوا فالموامير اللي يتقوا عن النقابة
وهي قصيدة كاملة وضعها اسرافيل الرعيدي في باب الشكوى وضمنها كتابه (جبريل الرعيدي قصائد الحرب والحنين والشكوي) ..
كان وجود جبريل معنا مُسلّيا ، وكان أبي يخصص له من وقته كل يوم ، يسأله ويستمع منه ما لا يعلم من الأحوال ، وكان يسيئه كثيرا أن لا يزوره بعضنا كل يوم ، فأخي عبد الله رجل شرطي وغياب الليالي والأيام عن البيت طبيعي ، وأخي موسى يقوم بالتدريس خارج البيضاء ولا يأتي إلا يومين في الأسبوع أما أنا وبقية العائلة فنزوره كل يوم ، جماعات وفرادى ، فنحن مقيمون معه .. كان همي أن أكتب منه واستمع إلى قصائده ، ولكن قبل بلوغي للسادسة عشر كان لا يعيرني ذلك الاهتمام الكبير عندما أطلب منه إلقاء الشعر ، وعندما أدخل حجرته وأبادره بالسلام يرد عليّ بقوله : (وعليكم السلام والرحمة و15 لحمة ، 13واثنتين منهم لي والباقي لك) ، وعند بلوغي للسادسة عشر اعتبرني رجلا وأصبح يعيد على أسماعي القصائد التي أنبهه إلى بداياتها .. ومن قصائد الشكوى شعره على نفسه ، وربما اشرك أحد مجايليه في حاله ، مثل تلك القصيدة التي ورد فيها اسم (دلاف الجلغافي) التي يقول في مقدمتها :
نا وانت يا دلاف يا ما رينا اللي اليوم كلتنا امواطي عينـــه
ما اركبت من مطرابة أولا كوت يقفز من رفيف اركابـــــــــه
واتصبي امعاهم كان جو طلابة و تعزل الشاه العاتية السمينة
أو تلك القصيدة التي يعزي فيها نفسه مخاطبا عينيه اللتين كانتا تبصران البعيد والقريب ، وقد تطرق فيها إلى الدنيا وكيف تفعل بأصحابها ، وإنها ذات عبر لم تدم لأحد ، فبعد القوة والنظر الحاد صار لا يرى ابعد من يديه ويقول فيها :
يا انظار ديرن عزم لا اتباكن ناس واجده طاريلها مطراكن
يا مو ساير وما من اللي شارق مداره حاير
ليام نزلن حتى الطير الطاير
راه البكا والدمع غير عماكن
وهي قصيدة طويلة أحسب أنها آخر قصائده.
عندما نوى أبي أداء فريضة الحج ، تسرّب الخبر إلى جبريل فطلب من أبي أن يأخذه معه ليحج هو الآخر ، وكان جبريل قد توقف عن المشي إلا بمساعدة الآخرين ، وعيناه لا تريان الأشياء بوضوح ، فضلا عن أنه لا يأكل إلا أشياء سهلة الهضم ، غير أن أبي بعد تفكير استعدّ بأن يأخذه معه إلى الحج ، وليستأجر له الحمالين بمكة في الطواف والسعي والوقوف بعرفة ، هذا حسبما أفاد به بعض الحجاج القدامى .. وصار الاثنان من ركاب الباخرة (مريانا لاتسي) اليونانية التي كانت تضطلع بحمل الحجاج إلى البيت الحرام في ستينيات القرن الماضي ، وسهّـل الله وقام جبريل بأداء الفريضة محمولا على أكتاف الرجال الذين كان أبي يدفع لهم مبلغا معلوما من المال نظير ذلك .. وعند وصولهم أرض الوطن كان النزول بميناء مدينة (طبرق) .. ذهبت أنا وأخي موسى واستقبلناهم عند نزولهم ، استأجرنا سيارة (فوردينا) وبات صاحبها معنا بطبرق ، كان ذلك سنة 1962م.
عندما وصل الوالد وجبريل الرعيدي إلى البيت كان جبريل متهللا ، يشع وجهه بالبشرى والفرح ، وهو لا يفتأ يذكر والدي بخير حتى أنه ترجز قائلا :
نا في خير و ماني سايب سلّم عباس و موجايب
مع كون جبريل الرعيدي بهذا العمر الذي قارب المئة سنة ، ومع تردّي أحواله الصحية إلى الحضيض ، مع ذلك فمازال يدخّن ، وفي بداية حلوله عندنا كان يدخن التبغ المبشور داخل المبسم ثم يسلط عليه نار قداحة القاز حتى يتأجج ، وهو لا يتوقف عن المص لينفثه سحابة دخان ترتفع في الجو ودخّن بهذه الطريقة زمنا ، وذات يوم أعطاه أخي موسى سيجارة ، أعتقد أنها من نوع (لبدة) ، وضعها جبريل في مبسمه وأخذ يدخنها ، والظاهر أنه استحسنها ومال إليها ، ولم يعد إلى طريقة التبغ المبشور ،ومن يومها وهو يدخن السجاير المصنعة ، وقد أخذ يداول بين أنواع سجائر ذلك الزمن ، فكانوا يشترون له (الغرياني والجفارة والطرابلسي والرايس) وكلها بدون فلتر ، وكان أحدثها (السفير) وهو بالفلتر ، وكان جبريل يسمي سيجارة الفلتر هذه (بوكريع) ، ولا يفتأ ينادي على أخي موسى قائلا : هاتلي دخان بوكريع يا مويس راه هو اللي طيب.
كنا نستحي أن نسأل جبريل الرعيدي عن قصائده العاطفية لأننا نعتبره كوالدنا ، وإنما كنا نسأله عن قصائد الأجواد لا غير ، مع أن مجايليه قالوا كان جبريل أيام الفتوة والنضج التام صاحب مجرودة وضم قشة يستطيع أن يستمر إلى الفجر ، ولكن هذه الأشعار كلها ضاعت مع حفاظها تحت التراب ، ولم يبق منها شيء ، حتى الذين كانوا يحفظون أجزاء من القصائد قد ماتوا أيضا وليس منهم أحد) .
(رواية الاستاذ إدريس الرعيدي /13 ديسمبر 2017) ...