....من المعلوم أن المرحوم الشاعر جبريل الرعيدي ،قد قضى العشر سنوات الاخيرة من عمره في كنف عمي عباس الرعيدي وعمتي سالمه امجاور رحمة الله عليهما ,,,,
وفي الايام الماضيه في لقاء مع أبن عمتي الدكتور الفاضل عبد الجواد عباس طلبت منه تزويدي بما يعرفه عن الشاعر جبريل الرعيدي خاصة انه عاصره وكان قريبا منه بحكم ان الشاعر قد مكث ببيتهم مايقارب العشر سنوات الاخيرة من عمره ،فتفضل علي مشكورا بهذا السرد عن الشاعر والمجاهد جبريل الرعيدي رحمه الله :
وفي الايام الماضيه في لقاء مع أبن عمتي الدكتور الفاضل عبد الجواد عباس طلبت منه تزويدي بما يعرفه عن الشاعر جبريل الرعيدي خاصة انه عاصره وكان قريبا منه بحكم ان الشاعر قد مكث ببيتهم مايقارب العشر سنوات الاخيرة من عمره ،فتفضل علي مشكورا بهذا السرد عن الشاعر والمجاهد جبريل الرعيدي رحمه الله :
(جبريل الرعيدي كان يقيم عندنا
هو أحد أقاربنا ، وفي مقام جدّي ، ففي العشر سنوات الأخيرة من حياة الشاعر جبريل الرعيدي كان قد بلغ من العمر أقصاه فامتنع عن الخروج ولزم الفراش فتلقفه أبي وحمله إلى بيته ، إذ ليس هناك من يخدمه سوى زوجته الكبيرة في السن هي الأخرى وتحتاج إلى من يخدمها .. حملهما أبي معا ووضعهما في بيته يأكلان مما تأكل أسرته .. وأتاحت لنا فرصة وجوده أن سمعنا منه شخصيا معظم أشعاره المشهورة ، فقد كنت أخاطبه وأكتب عنه ، كان ذلك عندما أصبحت في السادسة عشر من عمري وأنا الآن في الحادية والسبعين ، أي منذ 56 عاما كان جبريل الرعيدي في بيتنا ، كانت به بقية من صحة تمكنه من الوقوف والوصول إلى الحمام، أما في الثلاث سنوات الأخيرة فكان يحتاج إلى من يسنده للوصول إليه .
في هذه العشر سنوات التي قضاها عندنا صار يبكي على أيامه الخوالي ، لا بالدمع ولكن بواسطة الشعر ، يبكي على أيام أن كان فيها قويا ، يضرع أطراف الأرض على حصانه أو مع الإبل أو حتى راجلا ، وكثيرا ما كان يقول ما أحَبَّ إليّ أكثر من سُرى الليل .. كان يستذكر أيام الجهاد مع أحمد الشريف قبل أدوار عمر المختار ، يتذكر الرفاق ويصف المواقف بكل دقة ، كان ذلك مولد قصيدته التي مطلعها :
ذاني عليهن سكاكير وعيوني عليهن ضبابة
و نا كنت نفرز الطير اللي بين فاضي وغابة
وانسوق في بنات المخاوير والخالي انقضو اصلابة
وانرافقوا فالموامير اللي يتقوا عن النقابة
وهي قصيدة كاملة وضعها اسرافيل الرعيدي في باب الشكوى وضمنها كتابه (جبريل الرعيدي قصائد الحرب والحنين والشكوي) ..
كان وجود جبريل معنا مُسلّيا ، وكان أبي يخصص له من وقته كل يوم ، يسأله ويستمع منه ما لا يعلم من الأحوال ، وكان يسيئه كثيرا أن لا يزوره بعضنا كل يوم ، فأخي عبد الله رجل شرطي وغياب الليالي والأيام عن البيت طبيعي ، وأخي موسى يقوم بالتدريس خارج البيضاء ولا يأتي إلا يومين في الأسبوع أما أنا وبقية العائلة فنزوره كل يوم ، جماعات وفرادى ، فنحن مقيمون معه .. كان همي أن أكتب منه واستمع إلى قصائده ، ولكن قبل بلوغي للسادسة عشر كان لا يعيرني ذلك الاهتمام الكبير عندما أطلب منه إلقاء الشعر ، وعندما أدخل حجرته وأبادره بالسلام يرد عليّ بقوله : (وعليكم السلام والرحمة و15 لحمة ، 13واثنتين منهم لي والباقي لك) ، وعند بلوغي للسادسة عشر اعتبرني رجلا وأصبح يعيد على أسماعي القصائد التي أنبهه إلى بداياتها .. ومن قصائد الشكوى شعره على نفسه ، وربما اشرك أحد مجايليه في حاله ، مثل تلك القصيدة التي ورد فيها اسم (دلاف الجلغافي) التي يقول في مقدمتها :
نا وانت يا دلاف يا ما رينا اللي اليوم كلتنا امواطي عينـــه
ما اركبت من مطرابة أولا كوت يقفز من رفيف اركابـــــــــه
واتصبي امعاهم كان جو طلابة و تعزل الشاه العاتية السمينة
أو تلك القصيدة التي يعزي فيها نفسه مخاطبا عينيه اللتين كانتا تبصران البعيد والقريب ، وقد تطرق فيها إلى الدنيا وكيف تفعل بأصحابها ، وإنها ذات عبر لم تدم لأحد ، فبعد القوة والنظر الحاد صار لا يرى ابعد من يديه ويقول فيها :
يا انظار ديرن عزم لا اتباكن ناس واجده طاريلها مطراكن
يا مو ساير وما من اللي شارق مداره حاير
ليام نزلن حتى الطير الطاير
راه البكا والدمع غير عماكن
وهي قصيدة طويلة أحسب أنها آخر قصائده.
عندما نوى أبي أداء فريضة الحج ، تسرّب الخبر إلى جبريل فطلب من أبي أن يأخذه معه ليحج هو الآخر ، وكان جبريل قد توقف عن المشي إلا بمساعدة الآخرين ، وعيناه لا تريان الأشياء بوضوح ، فضلا عن أنه لا يأكل إلا أشياء سهلة الهضم ، غير أن أبي بعد تفكير استعدّ بأن يأخذه معه إلى الحج ، وليستأجر له الحمالين بمكة في الطواف والسعي والوقوف بعرفة ، هذا حسبما أفاد به بعض الحجاج القدامى .. وصار الاثنان من ركاب الباخرة (مريانا لاتسي) اليونانية التي كانت تضطلع بحمل الحجاج إلى البيت الحرام في ستينيات القرن الماضي ، وسهّـل الله وقام جبريل بأداء الفريضة محمولا على أكتاف الرجال الذين كان أبي يدفع لهم مبلغا معلوما من المال نظير ذلك .. وعند وصولهم أرض الوطن كان النزول بميناء مدينة (طبرق) .. ذهبت أنا وأخي موسى واستقبلناهم عند نزولهم ، استأجرنا سيارة (فوردينا) وبات صاحبها معنا بطبرق ، كان ذلك سنة 1962م.
عندما وصل الوالد وجبريل الرعيدي إلى البيت كان جبريل متهللا ، يشع وجهه بالبشرى والفرح ، وهو لا يفتأ يذكر والدي بخير حتى أنه ترجز قائلا :
نا في خير و ماني سايب سلّم عباس و موجايب
في هذه العشر سنوات التي قضاها عندنا صار يبكي على أيامه الخوالي ، لا بالدمع ولكن بواسطة الشعر ، يبكي على أيام أن كان فيها قويا ، يضرع أطراف الأرض على حصانه أو مع الإبل أو حتى راجلا ، وكثيرا ما كان يقول ما أحَبَّ إليّ أكثر من سُرى الليل .. كان يستذكر أيام الجهاد مع أحمد الشريف قبل أدوار عمر المختار ، يتذكر الرفاق ويصف المواقف بكل دقة ، كان ذلك مولد قصيدته التي مطلعها :
ذاني عليهن سكاكير وعيوني عليهن ضبابة
و نا كنت نفرز الطير اللي بين فاضي وغابة
وانسوق في بنات المخاوير والخالي انقضو اصلابة
وانرافقوا فالموامير اللي يتقوا عن النقابة
وهي قصيدة كاملة وضعها اسرافيل الرعيدي في باب الشكوى وضمنها كتابه (جبريل الرعيدي قصائد الحرب والحنين والشكوي) ..
كان وجود جبريل معنا مُسلّيا ، وكان أبي يخصص له من وقته كل يوم ، يسأله ويستمع منه ما لا يعلم من الأحوال ، وكان يسيئه كثيرا أن لا يزوره بعضنا كل يوم ، فأخي عبد الله رجل شرطي وغياب الليالي والأيام عن البيت طبيعي ، وأخي موسى يقوم بالتدريس خارج البيضاء ولا يأتي إلا يومين في الأسبوع أما أنا وبقية العائلة فنزوره كل يوم ، جماعات وفرادى ، فنحن مقيمون معه .. كان همي أن أكتب منه واستمع إلى قصائده ، ولكن قبل بلوغي للسادسة عشر كان لا يعيرني ذلك الاهتمام الكبير عندما أطلب منه إلقاء الشعر ، وعندما أدخل حجرته وأبادره بالسلام يرد عليّ بقوله : (وعليكم السلام والرحمة و15 لحمة ، 13واثنتين منهم لي والباقي لك) ، وعند بلوغي للسادسة عشر اعتبرني رجلا وأصبح يعيد على أسماعي القصائد التي أنبهه إلى بداياتها .. ومن قصائد الشكوى شعره على نفسه ، وربما اشرك أحد مجايليه في حاله ، مثل تلك القصيدة التي ورد فيها اسم (دلاف الجلغافي) التي يقول في مقدمتها :
نا وانت يا دلاف يا ما رينا اللي اليوم كلتنا امواطي عينـــه
ما اركبت من مطرابة أولا كوت يقفز من رفيف اركابـــــــــه
واتصبي امعاهم كان جو طلابة و تعزل الشاه العاتية السمينة
أو تلك القصيدة التي يعزي فيها نفسه مخاطبا عينيه اللتين كانتا تبصران البعيد والقريب ، وقد تطرق فيها إلى الدنيا وكيف تفعل بأصحابها ، وإنها ذات عبر لم تدم لأحد ، فبعد القوة والنظر الحاد صار لا يرى ابعد من يديه ويقول فيها :
يا انظار ديرن عزم لا اتباكن ناس واجده طاريلها مطراكن
يا مو ساير وما من اللي شارق مداره حاير
ليام نزلن حتى الطير الطاير
راه البكا والدمع غير عماكن
وهي قصيدة طويلة أحسب أنها آخر قصائده.
عندما نوى أبي أداء فريضة الحج ، تسرّب الخبر إلى جبريل فطلب من أبي أن يأخذه معه ليحج هو الآخر ، وكان جبريل قد توقف عن المشي إلا بمساعدة الآخرين ، وعيناه لا تريان الأشياء بوضوح ، فضلا عن أنه لا يأكل إلا أشياء سهلة الهضم ، غير أن أبي بعد تفكير استعدّ بأن يأخذه معه إلى الحج ، وليستأجر له الحمالين بمكة في الطواف والسعي والوقوف بعرفة ، هذا حسبما أفاد به بعض الحجاج القدامى .. وصار الاثنان من ركاب الباخرة (مريانا لاتسي) اليونانية التي كانت تضطلع بحمل الحجاج إلى البيت الحرام في ستينيات القرن الماضي ، وسهّـل الله وقام جبريل بأداء الفريضة محمولا على أكتاف الرجال الذين كان أبي يدفع لهم مبلغا معلوما من المال نظير ذلك .. وعند وصولهم أرض الوطن كان النزول بميناء مدينة (طبرق) .. ذهبت أنا وأخي موسى واستقبلناهم عند نزولهم ، استأجرنا سيارة (فوردينا) وبات صاحبها معنا بطبرق ، كان ذلك سنة 1962م.
عندما وصل الوالد وجبريل الرعيدي إلى البيت كان جبريل متهللا ، يشع وجهه بالبشرى والفرح ، وهو لا يفتأ يذكر والدي بخير حتى أنه ترجز قائلا :
نا في خير و ماني سايب سلّم عباس و موجايب
مع كون جبريل الرعيدي بهذا العمر الذي قارب المئة سنة ، ومع تردّي أحواله الصحية إلى الحضيض ، مع ذلك فمازال يدخّن ، وفي بداية حلوله عندنا كان يدخن التبغ المبشور داخل المبسم ثم يسلط عليه نار قداحة القاز حتى يتأجج ، وهو لا يتوقف عن المص لينفثه سحابة دخان ترتفع في الجو ودخّن بهذه الطريقة زمنا ، وذات يوم أعطاه أخي موسى سيجارة ، أعتقد أنها من نوع (لبدة) ، وضعها جبريل في مبسمه وأخذ يدخنها ، والظاهر أنه استحسنها ومال إليها ، ولم يعد إلى طريقة التبغ المبشور ،ومن يومها وهو يدخن السجاير المصنعة ، وقد أخذ يداول بين أنواع سجائر ذلك الزمن ، فكانوا يشترون له (الغرياني والجفارة والطرابلسي والرايس) وكلها بدون فلتر ، وكان أحدثها (السفير) وهو بالفلتر ، وكان جبريل يسمي سيجارة الفلتر هذه (بوكريع) ، ولا يفتأ ينادي على أخي موسى قائلا : هاتلي دخان بوكريع يا مويس راه هو اللي طيب.
كنا نستحي أن نسأل جبريل الرعيدي عن قصائده العاطفية لأننا نعتبره كوالدنا ، وإنما كنا نسأله عن قصائد الأجواد لا غير ، مع أن مجايليه قالوا كان جبريل أيام الفتوة والنضج التام صاحب مجرودة وضم قشة يستطيع أن يستمر إلى الفجر ، ولكن هذه الأشعار كلها ضاعت مع حفاظها تحت التراب ، ولم يبق منها شيء ، حتى الذين كانوا يحفظون أجزاء من القصائد قد ماتوا أيضا وليس منهم أحد) .
كنا نستحي أن نسأل جبريل الرعيدي عن قصائده العاطفية لأننا نعتبره كوالدنا ، وإنما كنا نسأله عن قصائد الأجواد لا غير ، مع أن مجايليه قالوا كان جبريل أيام الفتوة والنضج التام صاحب مجرودة وضم قشة يستطيع أن يستمر إلى الفجر ، ولكن هذه الأشعار كلها ضاعت مع حفاظها تحت التراب ، ولم يبق منها شيء ، حتى الذين كانوا يحفظون أجزاء من القصائد قد ماتوا أيضا وليس منهم أحد) .
(رواية الاستاذ إدريس الرعيدي /13 ديسمبر 2017) ...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق