"سنة 1964م ذهبت مع أبي من المشلّ إلى اسلنطة.. دخلنا دكان بوتكاميل.. يا الله.. يا للدهشة! إنه يحوي كلّ شيء.. حلوى شاكير.. حلوى النعناع (مَيْنتا) المربَّعة التي نُقِش على عُلبتها (عمر إبراهيم كانون) ، ذلك الاسم الذي عَلِق بأذهاننا مُرتبِطاً بالاخضرار والحلاوة.. في دكّان بوتكاميل أيضاً تجد المواد الغذائية.. الملابس.. الأحذية.. الطناجر.. الفؤوس.. المناجل.. السكاكين.. موس بوحلقة الأحمر.. الحبال.. الفنارات.. الحنّاء.. وحتى الأسبرو.. صابون السُّوسي الأخضر الذي يُباع بالميزان.. أشياء كثيرة كانت تُباع بالميزان: الفحم.. القاز.. الزيت.. الصباغ بكل ألوانه.. التوابل.. دكان بوتكاميل هو (مول) ذلك الزمان.
حين تأتيه ستأخذ بضاعتك حتى وإن كنت لا تملك نقوداً.. فـ (بوتكاميل) لديه دفتر كبير للديون.. ينتظرك إلى الحَوْل لتبيع غلتك أو حوالاك.. وربما إلى حولين أو أكثر.. ويمكنك تقسيط الدين.. أو يمكنه أن يُقايضك.. يأخذ شاة أو غلّة.. إنه زمن التوسعة.
خالي بوتكاميل لم يكن استثناءً.. فتقريباً كل التجار يفعلون ذلك.. غير أنني ذكرت بوتكاميل كنموذج لتجار ذلك الزمان لأنه كان جارنا بالبيت.. أو على الأصح كنا جيرانه.. الكمّ ع الكمّ.. لأننا كنا في أرضه.. وكانت سيارته (لاندروفر).. (ما تغرقش في الشتا).. كانت تلك ميزتها الظاهرة.. يذهب في الصباح الباكر إلى اسلنطة.. ويعود بعد المغرب.. حين أذهب معه يحلو لي أن أقف في مؤخر السيارة.. لأستمتع بمشاهد الطريق.. فيوصيني خالي بوتكاميل: (راك اتطيح).. واسلنطة قرية صغيرة هادئة.. لكنها كانت تعج بالحركة يوم السوق.. يأتيها البادية الجنوبيون.. حتى بادية (البر الفوقي).. يجلبون بعض شياههم.. أو السمن والبيض والديوك.. أو الجلود.. يقايضونها بالخضروات من (بوشناف الخزعلي).. ويطحنون غلّتهم في طاحونة (بواحقيفة الحاسي).. ويشربون (رانجاتا حسن صداقة) في القهوة.. الرانجاتا التي تُبرّد داخل شوال في مياه البئر.. ذلك زمن توسعة التجار على الفقراء.. حيث لا أحد يعود من السوق خالي الوفاض.. حتى أولئك الذين يجيئون إلى السوق ببضاعة مُزجاة.. يجدون بوتكاميل وأقرانه يوفون لهم الكيل.
الدرس الذي يُقدمه لنا بوتكاميل وأمثاله من التجار.. هو أن التاجر ليس مجرد شخص يملك بضاعة يبيعها للناس.. بل هو شخص مسؤول عن إرساء منظومة من قِيَم التعامل.. وهو يُدرك أنه يتاجر مع الله قبل البشر."
- رواية الكاتب القاص احمد يوسف عقيلة