بحث في هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 19 أغسطس 2021

الكون المتوازن ......

  كان السيد محمد سالم العبيَدي مديراً لما كان يسمى بـ(الأشغال العامة ) في اواخر الستينات بالبيضاء العاصمة الصيفية للمملكة الليبية..وكان الكثير من الليبيين يسعون لمقابلته للحصول على عمل فهو يدير اكبر مؤسسة تُعنى بالأشغال البلدية والمواصلات في ذلك الوقت حيث تقرب وظيفته من مرتبة (وزير)..ذهب ذات مساء فى جولة بدون هدف محدّد على غير عادته في سيارته الخاصة ،حيث لم يكن ممكناً ايام العهد الملكي إستعمال السيارات الحكومية بدون سائق او اذن في اوقات ما بعد العمل الرسمي .وجد في طريقه رجلاً في منتصف عمره واقفًا يشير بيديه للسيارت (التى كانت نادرة) للوقوف . تجاوز السيد محمد الرجل ثم استدرك لسبب ما ، وعاد بسيارته الى الوراء ، ركب الرجل بجانب السيد محمد متمتماً شكره ودعاؤه ، سأل السيد محمد الرجل إن كان يريد وجهة معينة ..فأجابه(وهو لا يعرف انه يتحدث الى مدير الاشغال العامة) بأنه ذاهب الى البيضاء باحثاً عن عمل بعد ان جاء من المنطقة الجنوبية هو واسرته التي اسكنها مع احد اقربائه حيث واجهته صعوبة الحياة الرعوية بعد ان غابت الامطار ، كما انه اراد ان يقارب المدينة حيث المدارس لإبنائه ..رقّ شعور السيد محمد لحالة الرجل واوصاه ان يذهب في الغد الى (فلان الفلاني) بإدارة الاشغال وسيجد توصية هناك ...ذهب الرجل فى صباح اليوم التالي إلى (فلان الفلاني) الذى سجّله فى سجل العاملين وانه سينال اجرا يوميا عن عمله كما متبع ذاك الزمن وبعد إستكمال إجراءاته الادارية ..ونظرا لحاجة الرجل للعمل اخلص فيه ممّا جعله يترقىّ الى ان اصبح خلال اشهر هو رئيس العمال ،اصبح بعض العمال يتندّرون على ان هذا الرجل لم يترقىّ إلا لمعرفته الشخصية بالسيد مدير الاشغال وعلاقته العائلية به والواسطة وغيرها ..سمع الرجل هذا الكلام الذى اوجعه وكرامته وطلب من بعض العاملين الحضور الى بيته الذى استأجره اخيرا فى وجبة عشاء لعله يتمكن من شرح الامر كما حصل بالضبط لعلهم يبتعدون عن هذا التجنيّ...سمع السيد محمد بالامر وبعد ان سأل على عنوان بيت الرجل ، طبّ عليهم فجأة ، أندهش الرجل لحضور السيد محمد ..وبدأ السيد محمد يسأل الرجل امام زملائه..هل اتيت انا قبلا الى بيتك هذا ؟..لا ...هل لدي علاقه اسرية او عائلية بك ؟..لآ ...هل رأيتك منذ حملتك فى السيارة معي ذلك اللقاء العفوي ؟..لا...هل تعرفنى قبل ذلك اللقاء؟...لآ.

  ثم بدأ السيد محمد فى سرد قصة ذلك اللقاء والتوصية التى عملها لإدارة الاشغال لتشغيل الرجل ..وانه لم يراه منذ ذلك الحين ولم يعد يذكر حتى اسمه ..!ثم التفت السيد محمد الى الرجل وقال باسماً :"من عادتي الا اخرج بسيارتي الا قليلا ولكن ذلك اليوم الذى وجدتك فيه كان هناك إلحاح عندي ان اخرج ..فخرجت ووجدتك وحدث ما حدث ..لعله كان بسبب ان الله يحبك لانك تفعل فى الخير وانك انسان طيب فكنت انا وسيلة من الله على تحقيق جزءا من امانيك" !..فرد الرجل ."لا اذكر انني فعلت معروفاً لأحد فأنا انسان بسيط وفقير وليس لديّ ما يزيد عن حاجتي لأساعد الاخرين كما انني لا املك مالا لأتصدّق او احجّ او غيرها ولكنني لم اعمل شرّا لأحد ايضا ." ثم استدرك الرجل قائلا "إلا شيئا واحدا لا زلت اذكره ..فقد كنت اعمل نظّافاً منذ سنين قبل الاستقلال لدى احد سجون الطليان بالمرج واذكر انهم ليلاً احضروا طفلاً ليبيًا فقيرا ومريضا ووضعوه السجن بتهمة السرقة والذي ظل يبكي طوال الليل ولم يأتي احد للسؤال عنه ..وعندما سألت الطفل قال لى انه لا اب ولا ام له ولا قريب ..فرقّ قلبي وأخذت مفاتيح الدار والسجن خلسة واطلقت سراحه وقلت له اذهب واضطررت انا ايضا لترك عملي والهروب لأن الطليان سيعاقبونني بعد إكتشافهم للامر "..وهنا سأل السيد محمد الرجل مجددا عن اوصاف ذلك الطفل فأكد اوصافه وقال له انه كان مريضا وصغير الحجم واقرع (اى به مرض جلدى بشعره )..وهنا انتفض السيد محمد وقال : "يا سبحان الله ..يا سبحان الله ، ذلك الطفل كان ..أنا "
(  رواية الحاج محمد عبد الله بن علي نقلاً عن السيد محمد سالم العبيدي ..رحمهما  الله )