بحث في هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 18 أغسطس 2013






                                  حنين

بقلم: مفتاح بوعجاج    12/12/2010
تحدّث احد المثقفين المصريين أمام احد أعضاء الحزب الوطني المصري وكان الحديث عن فترة الثلاثينات والأربعينات وحتى الخمسينات وبشيء من الحنين. فرد عليه العضو غاضبا: أتريد ان ترجع بالبلاد خمسين سنة إلى الوراء؟ فقال المثقف بكل ارتياح: يا ريت!
ذلك الوقت لم نعشه ولكن سمعنا وقرأنا عنه ورأينا صوره واستمعنا إلى شعرائه وفنانيه وقرأنا أدب وروايات ذلك الزمن الجميل، وتفرجنا على حفلات كبار ذلك الوقت فكان فنا أصيلا وكلاما وشعرا ولا أروع وجمهوره المؤدب الوقور في جلسته واستماعه وذوقه وإحساسه وصدقه وحتى لباسه فكوّن ذلك حنينا ووجعا للماضي.
مكرم عبيد المناضل المصري الوطني المشهور وكان قبطيا مسيحيا ورفيق سعد زغلول في النضال في الثلاثينات والأربعينات. توفي في عام 1961 وأقيمت له جنازة وطنية حضرها كل الشعب المصري الذي لم يكن يفرّق بين مصري قبطي او مصري مسلم تطبيقا للشعار الجميل الذي رفعه المصريين بعد انفجار كنيسة القديسين في الإسكندرية "مسيحي، مسلم مش مهم....نحن مصريين في نفس الوطن ونفس اللهمّ". مكرم عبيد هو صاحب الكلمة التاريخية: إذا كانت المسيحية ديني، فأن الإسلام وطني.
السودان ومصر كانت دولة واحدة تحت تاج واحد وعلم واحد، بعدها صارت مصر دولة والسودان دولة وألان سيصبح السودان دولتين واحدة في الجنوب والأخرى في الشمال بعد اطول حرب في افريقيا تركت ندوبا وجروحا وتاريخا وقضايا، وما سيترتب على هذا الانفصال من تبعات سياسية واقتصادية واجتماعية ستضر الاثنين. ولا تزال دارفور في الطريق! ومع كل هذه اللالام وجد السودانيين في الشمال وقتا لجلد امرأة ارتدت بنطلونا امام العالم ادعاء بأنها خالفت الشريعة التي فصلّوها على هواهم وأفكارهم السطحية التي لم تحفظ وطنا فما بالك بنطلونا او شريعة.
الخرطوم كانت يوما مكانا للاءات العرب الثلاث بعد حرب الـ67، لا صلح، لا تفاوض، لا سلام حتى تخرج إسرائيل من الارض المحتلة، انقلبت اليوم إلى عكسها فأصبحت إسرائيل هي التي تقول لا لكل شيء والعرب يستجدون العالم ليضغط على إسرائيل كي ترضى بإعطاء الفلسطينيين ما يقل عن 20% من الارض التي اعطاها لهم قرار الامم المتحدة في عام 1948 ورفضوها فلم يعرف العالم ماذا يريد العرب، فتركوهم على هواهم فلم يأتوا لا بالأولى ولا بالثانية.
اما عن القدس فهي اليوم في وضع صعب تحت الاستيطان ويبحث الإسرائيليون عن هيكل سليمان فوق الارض وتحت الارض وشيوخ ومفتيو العرب تغاضوا اليوم عن مسألة القدس اولى القبلتين ومسرى النبي عليه الصلاة والسلام إلى قضايا أخرى أكثر أهمية واقل تعبا والتزاما مثل هل يجوز للمرأة ان تقود السيارة ام لا؟ وهل ارتداء الجينز حلال؟ وهل يجوز للمرأة لباس القناع الواقي من الغازات وقت الحروب؟ وهل يجوز للمرأة ان تعمل بائعة او كاشيرة بالأسواق وهل الموسيقي والغناء حرام ام حلال والتي لو تتبعت ما يقولون فيها لوجدت الفتوى ونقيضها.
قادني ذلك إلى تذكر ذلك الرجل الذي قال له صديقه: اليوم رأيت خطيبتك مع الواد عبدالمعطي الميكانيكي اليد في اليد يتنزهون في الكورنيش... فرد الرجل غاضبا مستنكرا: الواد عبدالعاطي ده لا ميكانيكي ولا حاجة ولا بيفهم في الميكانيكا ولا بيعرف الميكانيكا..أوعي تصدّقه!
اليمن في صراع أخوي بين الشمال والجنوب رغم أنهم كلهم عرب ومسلمون وهنا تنتفي حجة السودان في ان الشمال عربي مسلم والجنوب افريقي مسيحي وديانات واللاديانات اخرى فما السبب يا ترى بالنسبة لليمن؟
لبنان، بلد الأخطل الصغير (بشارة الخوري) صاحب "سائل العلياء عنا والزمانا...هل خفرنا ذمة مذ عرفانا....المرؤات التي عاشت بنا....لم تزل تجري سعيرا في دمانا" قصيدة وردة من دمنا، في الأربعينات يتغنى بفلسطين وبلد الكتب والمجلات والثقافة، بعد مصر وبلد الحريات الدينية والشخصية وبلد فيروز سفيرة العرب كما يقال إلى النجوم. اليوم في صراعات طائفية وسياسية لم تنجه منها حتى الان، الا ما يتمتع هذا البلد من الحد الادنى من المؤسسات الديمقراطية التي لن تصمد كثيرا اذا ما استمر هذا الامر.
الصومال كانت دولة وألان صارت إلى كيانات هلامية متعددة تحارب بعضها بعضا بدون هدف او اتجاه ولم يعد للحديث معني؟
عندما انتهت المدة المتفق عليها بين الصين وبريطانيا على التواجد في جزيرة هونج كونج، قامت بريطانيا بتسليم الجزيرة إلى الصين وكانت هونج كونج بلدا ديمقراطيا ليبراليا ذا اقتصاد ليبرالي ناجح وكانت الصين بلدا شيوعيا منغلقا ذا اقتصاد متعثر ضعيف. فأتفق حكماء الصين على ان تحتفظ هونج كونج بنظامها الديموقراطي والاقتصادي وان تعود إلى الصين تحت شعار "نظامان ودولة واحدة" وبتتبع تاريخ الصين نجد ان اكبر دولة في العالم هي التي اتبعت اصغر دولة في النظام الاقتصادي وليس العكس ونجحت الاثنتان!
هكذا يبدو ان ما قاله المثقف المصري، صحيحا، فالماضي أفضل من الحاضر كثيرا والمستقبل مليء بالمفاجأت. أليس من حقنا في هذه الحالة ان نسأل لماذا واين وكيف، وان يعلو صوت اخر غير الاصوات والشعارات التي قادتنا إلى كل هذه الهزائم والانتكاسات وان نستعمل هذا الذي نحمله بدون ان يحملنا، العقل. والذي سيقودنا إلى ضرورة البحث عن وعاء يستوعب تناقضات المجتمع وتطلعاته وثقافاته واحتياجاته بحيث يتم الاحتفاظ بالوطن الواحد، وهي امور في الحقيقة موجودة في هذا الشيء السحري: الديمقراطية وتابعتها الليبرالية وتوابعهما عكس التزمّت والانغلاق والتعصب والرأي الواحد والشمولية والدكتاتورية، ويبقى الدين لله والوطن للجميع. والتاريخ والأمر أمامكم.
مفتاح بوعجاج
كاتب ليبي

ليست هناك تعليقات: