.."كنت مُناوباً ليلياً عام 1967 في مستشفى البيضاء المركزي (تم بناؤه عام 1964) ..ولا زلت جديدا على العمل ..فإذ بي ارى رجلاً تدل هيئته وملبسه على هيبة ووقار مع كثير من التواضع على غرار رجال الادارة ذلك الزمن ،ورغم انيّ كنت اشعر انني رأيته من قبل ولكني لم اعرف اين ومتى ! ..رأيته يدخل قسم الرجال ..وليس من العادة ان يُسمح بذلك خاصة في هذا الوقت من الليل بدون أذن ومعرفة مني ..لم يتحدّث اليّ إنما أنهمك في محادثة مع احد المرضى المسنّين الذي كان بسريره في قسم الباطنة ..راقبته ولم اتحدّث اليه ..رأيته بعد المحادثة انه قد امسك بيد ذلك المُسّن وأخذ يقوده ببطء وتدرّج حتى حمّام القسم ..ثم وقف ينتظره إلى ان خرج ، ثم قاده راجعاً إلى سريره..اقتربت منه وسألته ..تفضّل انا المُناوب من انت ! ..رد :..انا فقط مسؤول حكومي اردت أطمئن على حالة المستشفي والمرضى في هذا الوقت ..سألته : هل لديك تعريف او تكليف بذلك ! ..لم يرد ..إنما سألني .."هل بإمكاني ان استفسر من مرضى الاقسام مباشرة وبعدها سأعطيك ما تريد" ..لسبب ما ،اقتنعت بما قال ..وتركته يفعل ما يُريد حسب طلبه ..ثم سألني بكل أدب ان يمر على بعض الاقسام الاخرى وفعلنا ..بيني وبين نفسي حمدت الله ان كل الاجابات كانت طيبة والاقسام نظيفة ومُرتبة وطواقم التمريض موجودة وتعمل ..بعدها طلب منيّ ان نجلس في مكتبي وفعلنا ..كان الحديث عن العمل بصفة عامة وبعض الاستفسارات الخصوصية عن طبيعة عملي والتمريض والاطباء والادوية وغيرها من لوازم العمل والادارة ...شكرني وطلب مني ان انقل شكره للإدارة ..سألته بكل ادب ..هل الان بالإمكان معرفة حضرتك ..رد بإبتسامة لطيفة .."انا عبد الحميد البكوّش ..رئيس الحكومة ..والسيد البواب لديه معرفة بذلك بعد ان اقنعته بالأذن لي باالدخول ..لك وله تحياتي وإعتذاري عن مجيئي هذا الوقت بدون علم مسبق ..وشكرا على وقتك وعملك" ..رافقته للخارج مودّعاً ..وحتى سيارته المتواضعة التي كان يقودها بنفسه من غير حرس ولا رفيق .."..تلقيت بعدها رسالة شكر موقعة باسمه ..
(رواية الاستاذ محمد العبِيدي/ احد رموز مستشفى البيضاء والصحة عموماً عملاً وإخلاصاً وإدارة وتاريخاً)
السيد عبد الحميد البكوش (طرابلس 1932-2007) كان وزيرا للعدل ثم عضو مجلس النواب الليبي 1964 ثم اختاره الملك ادريس ليكون رئيساً للحكومة 1967-1968 وتم تعيينه بعد ذلك سفيرا لفرنسا حتى قيام الانقلاب ، وبعد عودته إلى ليبيا تم اعتقاله ثم قدم إلى ما سمي حينئذ بـ(محكمة الشعب)، التي شكلها الانقلابيون لمحاكمة رجال ومسؤولي العهد الملكي ..تمكن بعدها من مغادرة لبيبا بعد سنوات طويلة من السجن والإقامة الجبرية في منزله إلى مصر حيث تتبعته مخابرات القذافي من اجل إغتياله حيث علمت المُخابرات المصرية بذلك وأجريت مسرحية انطلت على النظام السابق بأنه قد تم إغتياله وعمّت الفرحة ونشوة الانتصار على اجهزته الاعلامية للخبر والذي اتضح فيما بعد انه كان مسرحية تم دفع ثمنها مُسبقاً ، فكانت فضيحة بكل المقاييس ..غادر بعدها إلى ابو ظبي حيث بقى هناك حتى وفاته رحمه الله عام 2007 ودُفن بها ..بالاضافة لكونه رجل إدارة وسياسة وقانون ، كان المرحوم شاعرا وأديباً وكاتبا ..من ضمن قصائده الوطنية ما كتبه عندما شعر بأن البعض يتهمه بالمغادرة وترك الوطن والمشهورة بأم السعد:
"لا أبدا يا ولدي لا ما هاجرت..لكني خيّمت بعيدا عن عرس الدم ..أحزنني جدا يا ولدي ان حتى في العرس دم...لكن العيد سيُقبل يا ولدي ..في يوم العيد..وأجيء بلادي مشتاقا في يوم الوعد..سأجيئك يوما يا بلدي خذ هذا العهد ..سأجيئك يوما يا ليبيا يا أم السعد.."