يواصل الكاتب والباحث الدكتور محمد محمد المفتي إبحاره في مجال التاريخ الاجتماعي الليبي، هذا المجال الذي أحبه وانشغل به منذ سنوات طويلة عبر كتابات حملت تأملاته وقراءاته وتحليلاته للمجتمع الليبي، وقد قدم للمكتبة الليبية في هذا المجال أكثر من عنوان: "هدرزة في بنغازي: هوية المكان الجميل"، "دكان الشايب أو هدرزة في السوق"، "الأيام الطرابلسية"، "سهاري درنة"، "مدينة وراء الأفق: مجتمع المرج القديم" وأخيرًا كتابه الجديد الذي نعرض له اليوم "مواهيم الجبل: التاريخ الاجتماعي للجبل الأخضر"(1)
الكتاب
الجديد يمزج الأدب والذكريات والتاريخ وعلم الاجتماع، ويسعى إلى تقديم
الجبل الأخضر للقارئ الليبي والقارئ العربي، بلغة تقوم على الإيجاز
والتكثيف، وتنأى عن التعقيد والإبهام، فهو يقدم كتبه للقارئ العام المهتم
بمعرفة المجتمع الليبي، وأحواله، وما شهده من تغييرات في البيئة الجغرافية
وفي العادات والتقاليد. ولأن الجبل الأخضر جزء من البادية الليبية الآخذة
في التلاشي أمام زحف الحياة الحضرية، كما يقول الكاتب، من المسكن الخرساني
المؤثث إلى الشارع الذي غزته السيارات والتلفزيون والمصرف إلخ فقد رأى
الكاتب أن يعمل على توثيق ماهو في طريق التلاشي ص13
ولكن لماذا مواهيم؟
هي شعاب ووديان وغيطان يقول المفتي، ويضيف: وربما شجرة خروب استظل بها ذات يوم الراحلون. هي شيء أقل من الأطلال لأن البدو لا يشيدون منازلا [منازلَ]*، وإنما ينصبون خيامًا أو بيوت شعر. المواهيم هي كل ما يوحي بالذكرى والعودة لاستكشاف مكان غائم الملامح. ربما هي لا تزيد عن خلاء صامت أو سفح وادي [وادٍ]*، أو فضاء مفتوح بين أشجار غابة.. لكنها تُشعل الذهن وتستدعي عواطف الحنين والحب. ص8
من المستشفى إلى السجن
يسرد المؤلف علاقته بالجبل الأخضر، فقد ساقته الأقدار ليعمل طبيبًا هناك
عقب تخرجه وعودته للبلاد من بريطانيا في صيف 69، ورغم أنه لم يبق سوى ثلاث
سنوات بالبيضاء إلا أن علاقته بالجبل الأخضر لم تندثر بل بقيت واتصلت، ربما
ساهم في ذلك أن المؤلف اعتقل مع أبناء الجبل الأخضر في قضية سياسية أوائل
السبعينيات وعاشرهم في السجن لعشر سنوات أخرى (1973-1984)، ففي مستشفى
البيضاء أوائل السبعينيات حين باشر عمله هناك كون مع آخرين في قطاع الصحة
فريق عمل أهم ما ميزه حرصه على الصالح العام، خلال شهور افتتحوا مراكز صحية
في المدينة، وأوصلوا أطباء مقيمين إلى عدد من القرى، ومستوصفات بها ممرضون
ثابتون في أخرى، وافتتحوا مدرسة لمساعدة الممرضات بمستشفى البيضاء، وعندما
زاروا منطقة الدخلة وجدوها مجرد غوط بائس صورة أقرب للقرون الوسطى فأنشأوا
مستوصفًا بها، وطلب المقيمون مدرسة فقام الطبيب الشاب محمد المفتي
بالاتصال بمدير التعليم بتعيين مدرس وقام فريق الصيانة بالصحة بتشييد ثلاثة
براريك: مستوصف وفصل دراسي وغرفة للمدرس والممرض، لكن القذافي عندما علم
بكل هذا استبعد الفعل الخيري للمبادرة واعتبر ما قاموا به ضربًا من الدعاية
السياسية جديرة بالعقاب فاعتقل المفتي ورفاقه وبقي معهم في السجن عشر
سنوات.
الجغرافيا والعلاقات الاجتماعية
الجبل هبة السماء، هضبة مرتفعة مطلة على البحر المتوسط، ولذا، تحظى بمنسوب عالٍ من مياه الأمطار، مياه تسقي غطاءها النباتي من الأشجار كما تسمح بزراعة الحبوب، وفي حياة البادية يشكل الماء العنصر الأساسي للحياة، للشرب وسقاية الحيوانات بالدرجة الأولى. سقوطها موسمي، وهذه الحقيقة كانت لها انعكاساتها على البنية الاجتماعية وإيقــاع الحياة بالجبل عبر العصور. فالأمطار موسمية ولتعويض جفاف الصيف يرحل أهل الجبل جنوبًا في الصيف لسقاية أغنامهم من مياه البحيرات الموسمية (البلط) في جنوب الجبل. ومنذ قـديم العصور قادت هذه الحركة الموسمية إلى تأسيس مبدأ الملكية الجماعية للأرض والماء، وظهرت القبيلة كمنظومة دفاعـية، ويقتبس المؤلف فقرات من كتاب الجراب لأحمد يوسف عقيلة، وأخرى من كتاب الرحالة الإنجليزي هاملتون الذي زار القبة منذ قرن مضى ويستشهد بمذكرات عمر المختار الوافي لكي يقدم لنا مشاهد مختلفة عن الحياة في الجبل خلال فترات متباينة.
يصطحبنا المؤلف في رحلة يعرفنا من خلالها على الجبل الأخضر: الجغرافيا والناس. المرج التي تبعد مائة كيلو متر عن بنغازي، يسرد تاريخها القديم والحديث كما وصفها الرحالة والمؤرخون وأساقفة بنغازي في حولياتهم، والتحديث المعماري الذي عرفته في عهد بالبو الإيطالي، كما يحدثنا عن وادي الكوف الذي ارتبط تاريخه بحركة الجهاد فقد كان عائقًا طبيعيًّا أمام حركة الغزاة الإيطاليين، يتحدث أيضًا عن قرية مسّة ويقتبس حكايات عنها مما كتبه عنها الكاتب الناجي الحربي ابن هذه القرية التي كانت خلال الخمسينيات منتجعًا يأتيه الملك إدريس كل صيف. يحدثنا عن البيضاء مقتبسًا من مدونة ابن هذه المدينة الكاتب د .مفتاح بوعجاج، يتحدث عن شحات قورينا، وسوسة.
وفي فصل حمل عنوان (بالجودة.. الجبل كمجتمع) يتطرق إلى حياة الناس في البادية قديمًا التي يقول عنها إنها ظلت قريبة مما هي عليه الحياة طيلة القرون الماضية من حيث المسكن والملبس والطعام ومصدر الرزق وهو الرعي وزراعة الغلال الموسمية، لكن مجيء الطليان رافقه أيضًا مد الطرق وشبكات التلغراف وتحديث المدن وتأسيس الإدارة، فضلًا عن دخول شتى السلع المصنعة ذات التأثير الاجتماعي مثل الكيروسين والدراجة والسيارة والكهرباء، كما قاد الغزو الإيطالي إلى حراكات بشرية هائلة نتيجة انتقال المجاهدين إلى جبهات القتال، أو الهجرات إلى مصر والجزائر وتشاد أو الاقتلاع الجهنمي إلى معسكرات الاعتقال في صحراء العقيلة، ساهمت كل تلك التطورات والعلاقات الجديدة في إذابة الحواجز القبلية، من عزلة، وتعصب، وشكوك وربما ثارات قديمة، ونمت بالمقابل أواصر الترابط بالجوار أو المصاهرة ومن ثم الإحساس بالهوية المشتركة بين أبناء الوطن.
يتطرق في هذا الفصل أيضًا إلى تأثر حياة الناس بمصدر الرزق في البيئة الليبية، ففي القرى الساحلية والواحات توجد البئر التي تتوفر بها مياه جوفية قريبة نسبيًّا، ما يؤدي إلى انتشار الزراعة التي تقود إلى الاستقرار والملكية الفردية، ويصبح الارتباط بالمكان أهم من الارتباط بالجماعة والقبيلة، ويتراجع دور شيخ القبيلة.
أما في البيئة التي يقل فيها الماء فتعتمد الحياة على
الرعي والزراعة الموسمية ويسود الترحال البادية، كما يظهر نمط الملكية
الجماعية للأرض، وبالتالي يهيمن نمط القبيلة كنظام اجتماعي.
يتطرق
أيضًا إلى موجات الجفاف والمجاعات والأوبئة التي عرفتها البيئة الليبية ما
أدى إلى الهجرات المتتالية من طرابلس شرقًا ومن برقة نحو مصر النيل، أيضًا
الحروب القبلية التي كانت تندلع بين القبائل حول ملكية الأراضي.
المحافظية
عقب وصول الفاشست إلى الحكم في إيطاليا، تجددت المقاومة الوطنية المسلحة سنة 1923 في الجبل الأخضر بقيادة عمر المختار، متمركزة في أحراش وادي الكوف، وعُرف مجاهدو الجبل الأخضر بقيادة عمر المختار باسم "المحافظية" وكانوا ينتظمون بما أسموه الأدوار، تميزت المحافظية بامتلاكها هيكلًا تنظيميًّا، وبأن قيادتها لم تكن قبلية، وتبنيها إستراتيجية هجومية متواصلة لا تنتهي بانتهاء المعركة.
مع تزايد إحباط قيادات الغزو الإيطالي، أدركوا الدور الخفي للأهالي في دعم المجاهدين في الجبل الأخضر، فقرروا حرمان المجاهدين من حاضنتهم الاجتماعية وذلك بترحيل البدو إلى فضاءات صحراوية في العقيلة والبريقة وسلوق التي استقبلت ما يربو على مائة ألف شخص، لقي ثلثهم حتفه هناك. وثقها الشاعر الشعبي في ملحمة شعبية عبر قصيدته "مابي مرض غير دار العقيلة".
حركة المقاومة التي قادها عمر المختار ضد الغزو الإيطالي 1923- 1931 تبقى الحدث الأبرز الذي يربط الجبل الأخضر بتاريخنا الوطني، فقد ظل الجبل شبه جزيرة معزولة باستثناء بناء الزاوية البيضاء في عام 1854 التي كانت بداية تأسيس الطريقة السنوسية.
يتطرق المؤلف إلى الجبل الأخضر خلال نهاية الثلاثينيات حين بسط الإيطاليون نفوذهم على كامل التراب الليبي وحققوا الجزء الأكبر من أحلامهم الإمبراطورية بتوطين عشرات الآلاف من فلاحي صقلية.
وكانت المرج قد أصبحت مركزًا للمشروع الاستيطاني الاستعماري لتوفير المراكز الخدمية بما فيها مخازن الغلال ومحطة السكة الحديد والكنيسة والسينما والمدرسة فضلًا عن سوق مركزي وإدارات المنطقة. وتم بناء 14 قرية بالجبل خلال 6 أشهر تميزت بمعمارها الذي استند إلى آخر الصيحات الفنية العالمية.
يستند المؤلف إلى رواية المرحوم عبد الرزاق شقلوف وهو يسرد انعكاسات أحداث الحرب العالمية على سكان الجبل الأخضر، ويتابع تطورات الحرب وأوضاع الليبيين خلالها وتواصل الملك إدريس مع الإنجليز ضد الإيطاليين، ويتطرق إلى البيضاء بعد الحرب والتعليم عام 1949 كما يصفه الدكتور نقولا زيادة نائب مدير المعارف في برقة إبان حكم الإدارة البريطانية.
يتناول المؤلف أيضًا
زلزال المرج في 21 فبراير 1963 نقلًا عن شاهد عيان، كما يتطرق إلى الجبل
الأخضر في عهد المملكة، القبائل التي كان لها حضور خاص في هذا العهد،
وتحديدًا البراعصة، وسعي الملك إلى تأسيس عاصمة في هذه المنطقة تيمنًا بما
فعله جده، ولجمال الطبيعة ولوقوعها في أراضي قبيلة البراعصة الموثوق بها.
اكتشاف النفط الذي رافقه بداية الفساد، ومحاولة انقلاب الأطيوش، وأحداث
الطلبة في يناير 64، وأزمة القواعد الأجنبية، وانقلاب سبتمبر 69، وحكم
أربعين سنة، وعلاقة القذافي بالجبل الأخضر، ويختتم بثورة فبراير في الجبل
ومظاهرات البيضاء ومعارك شحات ومطار الأبرق ..
هي إذًا رحلة علمية في
الجبل الأخضر، يأخذنا عبرها المؤلف في هذا الكتاب الممتع والزاخر
بالمعلومات والأحداث والوقائع والحكايات، بعضها تستعيده ذاكرته حين عاش
سنين هناك، وبعضها الآخر يوظف فيه شهادات الآخرين أو ينقل عن كتب وكتاب
ليبيين وعرب وأجانب، يرفقها بصور توثق لتلك الأحداث، فالصورة وسيط معرفي
وإعلامي قد يفوق النص المكتوب أحيانًا، ويقدمها بسرد تميز بالسلاسة
والتكثيف، وبمنهج علمي نقدي تحليلي يوظفه الكاتب وهو يصوغ تأملاته في علاقة
الإنسان بالبيئة من حوله، وتحولات المجتمع والمكان عبر الزمن في هذه
المنطقة الجميلة والراسخة في الوجدان الليبي، بتاريخها النضالي وغنى تراثها
من الشعر الشعبي وصورتها الخضراء البديعة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق