عن هذا الارمر كتب الباحث الاستاذ يوسف عبد الهادي :
انتقد كثير من النشطاء والمحللين السياسيين بعد ثورة فبراير عملية حظر الملك إدريس للأحزاب والجمعيات السياسية بعد الاستقلال بدون أن يدروا ما هي الأبعاد الحقيقية لهذا الموضوع.
ان جميع من عايش تلك المرحلة وعاصر ظروفها يعرف جيداً أن الملك الراحل رحمه الله لم يتدخل في وضع الدستور الليبي على الإطلاق, ويعرف أيضاً أن الدستور لم ينص صراحة على السماح بتشكل الأحزاب ولكنه ترك الباب مواربا بضمان حرية الفكر وحق الإعراب عن الرأي, وكذلك حق تكوين الجمعيات والتجمعات السلمية وعزز ذلك بضمان عدم تنقيح المواد الخاصة بالحريات والمساواة التي يكفلها هذا الدستور. ومن الجدير بالذكر أنه تظافرت عدة عوامل وأراء لتكون هي السبب الحقيقي الذي دفع برجال الجمعية الوطنية التأسيسية إلى تجنب مجرد مناقشة وضع نصوص دستورية تسمح بتشكيل أحزاب سياسية آنذاك.
ومن الجدير بالذكر أيضا هو أن الملك إدريس لم يكن يعارض فكرة قيام حياة حزبية في البلاد بشكل مطلق -وان كان في قرارة نفسه لا يعتقد بجدواها- ولكنه كان يؤمن إيمانا جازماً بان الوقت لم يحن بعد لقيامها والعمل بها, وربما معه كل الحق في ذلك, فالشعب الليبي ضئيل العدد, محدود التعليم, وفي بلاده المحدودة الموارد لن يفلت بالتأكيد من أن يُطحن بين فكي رحى الأحزاب المتنافسة, وأي أحزاب ؟, إنها تلك الأحزاب (المؤدلجة) القوية التي كانت تسيطر على الساحة وعلى عقول النخبة المثقفة في ليبيا منذ مطلع الخمسينات, والتي لا يوجد فيها حزب واحد مؤسس على فكرة الوطنية. وباختصار, لقد كانت مخالب القوميين والبعثيين والشيوعيين في داخل الوطن وأدمغتهم المحركة في القاهرة وبغداد وموسكو.
ويورد السيد "وهبي البوري" في كتابه (ذكريات حياتي) واقعة حضور وفد مؤتمر طنجة للأحزاب السياسية المغاربية الى ليبيا, وبالرغم من أن ليبيا لم تشارك في ذلك المؤتمر لانعدام وجود أحزاب سياسية فيها, إلا أن المؤتمرين قرروا المجئ إلى ليبيا وعرض أفكارهم على الملك الذي "رحب بهم وأحسن استقبالهم, واستمع باهتمام إلى ضيوفه وشجعهم على المضي قدما في رسالتهم النبيلة, ووعدهم بان تلحق بهم ليبيا عندما يحين (الوقت المناسب) وتتكون فيها هذه الأحزاب, وغادر الضيوف بعد أن تناولوا مع الملك طعام الغداء". أهـ
وباستقراء أسماء ذلك الوفد وسيرتهم الحزبية سنرى أن أولئك لم يحققوا في بلدانهم شيئا ذا بال طيلة الخمسين سنة الماضية سوى محاولة الإقصاء الوجودي والسياسي لخصومهم من الأحزاب والمنظمات السياسية الأخرى.
لقد أيقن الليبيون بمرور الأيام وبالتجربة أن (عاهلهم) لم يكن شغوفاً بالسلطة, ولكن الرجل عايش تجربة الحياة الحزبية المصرية عن قرب, وشهد عروضها على مسرح السياسة في المهجر, وأيضاً فهو لم يزل ماثل بين عينيه شبح التجربة (المأساوية) للحياة الحزبية في طرابلس في فترة ما قبل الاستقلال, والتي شرذمت الإقليم الغربي من البلاد وأضعفت كلمته, بينما اقتطفت برقة ثمرة خطوة إدريس السنوسي الجريئة والقاضية بحل وحظر النشاط السياسي لجمعية عمر المختار وأية هيئات سياسية أخرى في الإقليم, وحصر ذلك النشاط في (المؤتمر الوطني البرقاوي الموحد), وهو ما جعل برقة في موقف القوة في عيون اللجنة الرباعية والمراقبين الدوليين.
نعم, لم يكن يشغل فكر إدريس السنوسي بعد الاستقلال سوى شئ واحد فقط , وهو بناء بلاده وتوفير الحماية لها, ومن ثم راحة شعبه الذي أرهقته السنون, ولا سبيل إلى ذلك في بلد محدودة الدخل ومعدومة الموارد, إلا بالسير في نهج التحالف مع الدول العظمى بعد أن تنصلت منها شقيقاتها وجاراتها. فلو سمح إدريس ونظامه بتشكل الأحزاب قبل بناء الدولة لخر السقف من فوقنا, ولوقعت البلاد -بدون شك- فريسة المزايدات الرخيصة لتلك الأحزاب المفترضة, ولَمَا وُضع في ليبيا حجر على حجر, فضلا عن أن تُبنى البلاد بتلك الوتيرة المتسارعة بأقل الإمكانات وتحت أقسى الظروف, وهو ما حدث بحق في سنوات عهد الاستقلال المعدودة, وبالطريقة التقليدية, وهي أن تؤسس حكومة للحكومة التي بعدها مهما قَصُرَت مدة أي حكومة.
وفي حديث لي مع الباحث والمؤرخ الأستاذ سالم الكبتي سألته : هل تعتقد أن حل ومنع قيام الأحزاب السياسية في ليبيا كان مثلباً حقيقياً في سياسة الملك إدريس ؟, فقال لي: "أنا طرحت سؤالك هذا على المرحوم السيد حسين مازق رحمه الله فأجابني قائلا:
لقد طرحت هذا الموضوع على الملك رحمه الله, واقترحت عليه أن نبدأ الحياة الحزبية في ليبيا بتجربة نظام الحزبين (الحاكم والمعارض), فقال لي الملك :
"يا سيد حسين اضمن لي شيئا واحدا وأنا ليس لدي مانع في ما تقوله أنت الآن, ألا وهو عدم وقوع أياً من هذه الأحزاب فريسة لتأثير دولة خارجية". أهـ
لم يُعبر الملك إدريس بقوله هذا عن أوهام يتخيلها, أو هواجس تعتريه, بل إن ما يتخوف منه الرجل قد شُرَع فيه فعلا, وستتملكك الدهشة مثلاً وأنت تقرأ في كتاب (حقيقة إدريس) تقريراً مخابرتياُ مصريا خطيراً وصادماً, وقد حُرر في سبتمبر من سنة 1954, وواضح من نصه أنه مرفوع إلى أعلى المستويات في الدولة المصرية آنذاك, ويتجاوز هذا التقرير العشر صفحات, متناولاً الوضع السياسي في ليبيا, وقد اجتهدت الجهة التي قدمته أيما اجتهاد في محاولة رسم صورة سوداوية وقاتمة للعهد الملكي, حيث يوصم محرره فيه كل المسؤولين في ليبيا بالعمالة والجوسسة لصالح للاستعمار, ويطلب كاتبه من الساسة في مصر بعدم سيرهم في اتجاه مماشاة الأمر الواقع ومسايرة العناصر الحاكمة في ليبيا, ويقول:
"إن أخشى ما تخشاه مصر هو أن تضيع الفرصة عليها في مستقبل ليبيا وتفقد الزمام من يدها", ويطلب كاتبه "فعل ما يمكن أن يحقق كسب الوضع القائم في ليبيا ومستقبلها". وبعد أن يقدم ذلك التقرير استعراض تاريخي عن نشأة الأحزاب في طرابلس وجمعية عمر المختار في برقة ويتهم الملك والعهد الملكي بالقضاء عليها, يحاول أن يعزو حالة الهدوء والاستقرار التي تتمتع بها ليبيا في ذلك الوقت إلى الضغط والإرهاب البوليسي لا غير, ويخلص التقرير إلى العناصر الهامة التي تمكّن مصر من السيطرة على ليبيا وتؤمن الحدود الغربية للأولى, ويلخصها في كيفية إيجاد مقاومة ليبية سرية عن طريق التعاون مع الأحرار الليبيين وهي العناصر التي تتجه إليها مصر في تنفيذ السياسة الجديدة لصنع مستقبل ليبيا وتحريرها - حسب قوله - وذلك بما يلي :
- الاتصال بزعماء الأحزاب الوطنية (المنحلة) لتأليف مقاومة ليبية وطنية سرية تحتضنها مصر وتسهل مساعدتها ماديا وأدبيا .
- الاتصال بزعماء الطلبة الليبيين في مصر لتوجيههم وإعدادهم للقيام بالدور.
- مساعدة كل الأحرار والمضطهدين ورفع معنوياتهم ولو عن طريق سري.
ويختم رجل المخابرات المصري التقرير بالقول :
"إذا تم كل ذلك نستطيع أن نؤكد أن انقلابا سياسيا قريبا سيحدث في ليبيا وان نتائج حسنة مضمونة بالنسبة لمصر ستتم في مدى قريب جدا , ولتسهيل تنفيذ هذه البرامج - على حد تعبيره - يبين الكاتب للمسؤولين المصريين استعداده لتقديم الشخصيات الليبية التي يمكن الاعتماد عليها". أهـ
وفي مكان آخر, واستكمالا للصورة ولما ورد في هذا التقرير فإليك حديث (بشير المغيربي) في كتابه (وثائق جمعية عمر المختار) ويتحدث في هذه الفقرة بالضبط عن علاقة الجمعية بدولة مصر فيقول :
"في سنة 1955 قال لي السيد "أحمد بن بيلا" إن مسؤولين في رئاسة الجمهورية المصرية يودون الاجتماع بمن يمثّل جمعية عمر المختار للتعارف وتبادل وجهات النظر فأبلغت ذلك للأستاذ "مصطفى بن عامر" الذي كلفني بان أسافر مع بن بيلا إلى مصر لنعرف ما يريدون, وكان هذا أول لقاء في مصر مع مسؤولين في الرئاسة, ثم تعددت اللقاءات مع رجال الثورة المصرية حتى تشرفت بلقاء الرئيس جمال عبد الناصر, وتكررت اللقاءات معه بدعوة من الرئيس وبحضور مدير مكتبه". أهـ
لا شك بإن قول المغيربي هذا لم يخرج عما جاء ما جاء في التقرير المذكور, وهو ما يعني أن هذه الاتصالات بدأت فعلاً بعد تقديم ذلك التقرير ببضعة شهور لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة, ولا أدري كيف يستسيغ أشخاص كانوا أعضاءً في جماعة هي في ذلك الوقت (منحلة) وهم في نفس الوقت نواب مستقلون -أي نواب معارضة- في برلمان بلادهم أن تستدعيهم أجهزة دولة أخرى ليجتمعوا بأعلى مستويات الحكم والمخابرات فيها بدون حتى إخطار سلطات بلادهم وبمعزل عن ولاة الأمر فيها ؟.
وأضيف شئ هام: فباستعراض ودراسة سيرة (العرابين) الوارد ذكرهم مثلا في كتاب (عبد الناصر وثورة ليبيا) لرجل المخابرات المصرية (فتحي الديب) -والذي أتوقع أنا شخصيا أن يكون هو صاحب التقرير السالف الذكر لأسباب عدة- وبالاطلاع على ما كتب سامي شرف في كتابه سنوات وأيام مع عبدالناصر ؛ وبالربط بين كل ما توفر حتى الآن عن هذا الموضوع وتحليله, سيتبين لنا حجم خطورة ما حدث وما كان يمكن أن يحدث.
نعم , ليس هناك سوى تفسير واحد وهو أن مخاوف الملك ادريس لم تنشأ من فراغ, فهؤلاء وغيرهم كانوا -من حيث يدرون أم لا- أدوات في أيدي جهات أجنبية.
وإن ما يروج له البعض أحيانا بالقول : انه لو سُمح للحياة الحزبية بالوجود في ليبيا قبل الانقلاب المشؤوم لما وقع ذلك الانقلاب هو قول غير دقيق في نظري, ولا يراعي عامل (نوعية الفترة الزمنية) وطريقة التفكير إبّانها, وهذا القول لا يعدوا عن كونه (فلسفة حاضرة بتاريخ رجعي), لأن فكرة التغيير عن طريق الانقلاب كانت حلم ومطلب معظم الليبيين أصلا, والذين استهوتهم وسيطرت على عقولهم انقلابات مصر وسوريا والعراق واليمن, والدليل على عدم صحة هذا القول على سبيل المثال لا الحصر, أن الحياة الحزبية الطويلة التي عاشتها مصر الملكية لم تمنع وقوع انقلاب الجيش في 23 يوليو, ولم تردع الشعب -الذي سئمها- من الخروج مهرولاً في شوارع مصر تأييداً للانقلاب وضاربا بديمقراطية أحزابه عرض الحائط .
إن تسلط الحزب الواحد ذو الأغلبية المطلقة واستبداده بالسلطة ونزوعه للدكتاتورية, ونفاق الأحزاب الشكلية النفعية الأخرى له, كان على الدوام هو سمة الديمقراطية في أقطار العالم الثالث, كما أن التطاحن بين صفوف الأحزاب المتكافئة (الحاكمة والمعارضة) في تلك الأقطار يثبت بأنها لا تستطيع التعايش والتوافق فيما بينها ضمن جبهة واحدة هدفها بناء الوطن. بل لقد أصبح هذا التناحر والتنافر ظاهرة سياسية تتميز بها (ديمقراطية) دولنا. فالنضوج الغير مكتمل للعقلية السياسية والتشوه الفكري الذي تعيشه القوى المكونة للأحزاب ساعد على تصدع مفهوم الديمقراطية في المنظومة السياسية لتلك الأحزاب, ولعل ما عاشته ليبيا بعد (فبراير) هو خير دليل على حكمة الملك إدريس في ما اتخذه من إجراءات مبكرة تجاه التعددية الحزبية في البلاد.
وخلاصة القول أن لكل أمة طبيعة خاصة ومستوى معين من التفكير, إذاً فلكل منها نظام حكم يناسبها, وليس بالضرورة أن ما صلح به بلد سيصلح به بلد آخر يختلف عنه في الأصول والعقيدة والعادات والتفكير, وأن ما يصح في وقت هو ما يصح في سائر الأوقات, وأنا أرى أن (جرعة) الديمقراطية النيابية الدستورية التي ميزت العهد الملكي في ليبيا كانت أنسب ما يكون لمستوى ثقافتنا وتفكيرنا.
*الصورة ..البرلمان الليبي / البيضاء / في احد إجتماعاته / العهد الملكي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق