ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأغنية جزء من تاريخ الإنسان . قطعة من حياته. رافقها ورافقته. هتف وصاح بها. نظمها وشارك في غنائها. استمع إليها وانسجم معها ورقص من الفرح. اختلفت الأذواق، لكن طعم الأغنية ظل واحدا في كل الشفاه…
نحن هنا في ليبيا نحتاج إلى توثيق علمي ومنهجي لهذا التاريخ.. تاريخ الأغنية ومشوارها منذ فترة قديمة وحتى الآن. كثيرا ما كانت تذاع الأغنية دون أن يذكر ناظمها. أو الإشارة إلى ملحنها أو حتى إذا كانت من التراث الشعبي القديم. منذ فترة شرعت في إنجاز مايتعلق بذلك. جمعت الكثير من نصوص الأغاني وأعددت الجزء الأول بأسماء مؤلفيها وترجماتهم وأدوارهم.
والواقع أن الإذاعة الليبية منذ بدايتها على المستوى المحلي البسيط في بنغازي وطرابلس حافظت على التراث الفني الليبي وشجعت وقدمت الكثير من الأصوات ذات السبق وصاحبة الريادة. لولا الإذاعة ومسؤوليها الوطنيين في تلك الأيام لضاعت العديد من الجهود رغم أن أرشيفها يعتبر الآن في حكم المفقود غالبا. وهو أمر مؤسف ومحزن للغاية. قطعة من ذاكرة الوطن ذهبت مع الريح.
الأغنية لوحة من تاريخنا وهويتنا وشخصيتنا. الأغنية الليبية كانت مميزة بألحانها وكلماتها وأداء فنانيها. كنت تسمع الأغنية وتعرف أنها ليبية صميمة. تداخلت مع أغان أخرى إلى درجة السطو عليها وسرقتها ونسبتها إلى بلدان أخرى. لقد ساهمنا في ذلك دون أن ندري. ضاعت حقوقنا الوطنية والفكرية والفنية والأدبية وسط زحام السرقات والاعتداء الواضح.
ثمة التباسات تحدث مرارا وبحسن نية (أقول) لدى المهتمين أو المتابعين لتاريخ الأغنية، وبحكم عدم معاصرة البعض لتلك الأغاني أو لبعد الفترة الزمنية يظل المرء يلاحظ الكثير من الأخطاء والهنات التي لو ظلت على حالها فستبقى مرجعا أو مصدرا لكل دارس أو باحث يتوجه لدراسة تاريخ الفن والأغنية عندنا.
وعلى سبيل المثال لاحظت كثيرا الخلط في تاريخ الأصوات النسائية الفنية في ليبيا . عند الحديث مثلا عن خيرية المبروك يشار إلى أن من ضمن أغانيها.. أغنية (عيني في شان الغالي). والواقع أنها ليست أغنية مستقلة بل هي (برول) لأغنية (خوذي النصيحة) التي أدتها من نظم الفنان عبد الهادي الشعالية (توفي في بنغازي عام 1942) ويشار أيضا فيما يشار إلى أنها كانت تغني في فترة أعوام السبعينيات من القرن الماضي، والواقع أنها كانت تقوم بذلك في فترة الخمسينيات وقد توفيت في بنغازي في سبتمبر 1970. تبناها وشجعها الفنان علي الشعالية وقدمت أغنيات ثلاث في تاريخها الفني: خوذي النصيحة السابق ذكرها. و (مجروح لكن ماقدرت نقوله) وهي من نظم د. علي الساحلي دون أن يعلن عن اسمه في المصادر تلك الفترة بحكم موقعه في الدولة الليبية أيام المملكة. وأغنية (قلبي انشغل عنه ومايدريبي) من نظم محمد منصور المريمي. كانت الفنانة خيرية المبروك تأتي إلى مقر الإذاعة القديم في راس اعبيدة في حنطور (عربية) وبلباسها الليبي وتؤدي وصلتها وتعود إلى بيتها وسط المدينة. لاحظوا تلك الظروف وتلك الأيام. الغناء كان مستهجنا من الرجال فما بالك بالنساء في مجتمع محافظ!.
يحدث الخلط والالتباس أيضا أثناء التوثيق أو الحديث عن تاريخنا الفني في عدم ذكر أصوات أخرى من النساء . مثلا: فكرية علي التي كانت أول من شارك في دوبيت غنائي مع أحمد كامل من نظم علي الشعالية. أغنية (نهيتك ووريتك وريت بعيونك .. وان ماخديت القول بينك بينك). وفوزية محمود والثنائي الليبي والثلاثي الليبي وعفاف محرم.. وغيرهن. كما يحدث الخلط أيضا في الأصوات النسائية العربية ممن قمن بأداء وتقديم العديد من الأغاني الليبية: هناء الصافي وميادة اللبنانية وزكية حمدان وليلى مطر ونازك (ذات الأصول الليبية) وأسمها الأصلي هدي الحسيني. وسهام الشماس وعليه ونعمه وسلاف وزهيرة سالم والثلاثي المرح ومها صبري وشريفة ماهر وحورية حسن.. وغيرهن.
ظلت الأغنية الليبية تحمل تركيبة من الصدق والتطريب. ظلت أيضا واضحة المعالم تمشي واثقة الخطوات في الدروب. ورغم وجود الاختلاف مع بعض عباراتها وتوصيفاتها وعدم الاتفاق بشأنها من صور وتعبيرات لكنها تطورت مع الأيام في الكلمات التي لم تعد أسيرة تجربة الماضي المليئة بالحزن والظروف الصعبة.
نهض الرواد من الشعراء وكتاب الأغاني بإرسال قوافيهم وفقا لمعايشة يومية أو حدث مروا به. ووجدت اللحن الشعبي المناسب واستقرت في أعماق المتلقين. اختلفوا أم اتفقوا كما أشرت. غير أنهم أدركوا أن هذه الأغنية.. ليبية صميمة تحفر تجربتها من الواقع ويستند لحنها على أصالة التراث. الأغنية الليبية كانت وجها أخر لحياة الليبي وشخصيته. ولهذا نجحت وظلت تعيش في خاطره. يرددها. يحفظها. ينسجم معها في كل الأوقات بالرغم من تجدد الأذواق والاتصال الدائم بالأصوات والألحان التي من خارج وطنه موقنا تمام اليقين بأن الفن الإنساني هنا وهناك واحد. لكن أغنيتنا لها خصوصيتها ولها أنفاسها وتأثيرها.
والكلمات لم تكن غريبة. كانت ابنة البيئة. من تصاويرها وظلالها وألوانها وتركيباتها. الأغنية الليبية قاموسها يمتلئ غنىً وثراء. وظلت خالدة وتتطور وتواجه محاولات المسخ والتشويه. ذلك أن اللحن الشعبي الأصيل بقي صامدا وخاما رائعا لم يصدأ ولم يبهت وأعطى للأغنية قوتها، فلا أصالة بدون لحن أو كلمات ثم يأتي دور الفنان أو المؤدي الذي يزيد من هذه القوة والأصالة.
حافظ هؤلاء الشعراء والكتاب على قيمة الأغنية. كما حافظت الإذاعة في مشوارها. كما حافظ كل فنان ومهتم بتاريخ التراث عندنا توثيقا وبحثا بأصالة الأغنية الليبية. ونحن باستمرار سنظل في حاجة ملحة تدعونا إلى المزيد من الاهتمام بهذا التراث الكبير، حتى وإن لم نتماهَ معه في وقتنا الحاضر الذي تمثل الأغنية قطعة رئيسة منه. وهو أمر حيوي يحثنا كل لحظة في عالم يحاول تغييب الهوية والسيطرة عليها أو محوها بكل الأشكال على أن لا نهمل تراثنا وأغانينا وألحاننا وفننا. لكي لاتضيع شخصيتنا في الآخرين. لكي لايضيع الوطن وتاريخه من بين الأيادي وتحت الأنظار. الأغنية الليبية ليست بهجة فقط، ولكنها أيضا ضرورة وتاريخ!.
سالم الكبتي
بوابة الوسط | الأربعاء 27 يناير 2021
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق