بحث في هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 1 يناير 2014

ذهـب مع الريـح (1) ..مقال قديم .... 01-11-2014





  "ذهب مع الريح"... كنّا صغارا نسمع هذه الكلمة ولم نعى ماذا تعني ، بساطة تجعلنا حائرين في فهم كيف يلتئم الذهب مع الريح ،نفكّر قليلا وعند عدم توفر الإجابة ولا نجد من يتسع صدره لنا ليشرح لنا ، نذهب نحن أنفسنا مع الريح التي لم تكن بقساوة وجفاف ريح اليوم لينتهي يوم ويبدأ يوم أخر في أعمارنا..إلى أن كبرنا وعرفنا أنها كانت عنوانا لرواية إنسانية للكاتبة مارغريت ميتشل (Gone With the Wind ) تدور أحداثها في أمريكا أيام الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب بعد الصراع بين الجنوب الزراعي وصعود المجتمع الصناعي ..إلا أن العنوان يظل يكرّر نفسه ويصلح حتى في أمورنا الإنسانية وفي كثير من الأزمنة والأمكنة..كثيرة هي الأمور التي ذهبت مع الريح وعادت لنا بعد هدوئها وسكنت أنفسنا ووجداننا كذكريات ملئت أنفسنا وعقولنا وخواطرنا وكتبنا وأوراقنا ودفاترنا..

   يستهويني هذا العنوان كثيرا لأنه يصلح لان يكون عنوانا لكثير ممّا مرّ بنا ،كلامنا –أصحابنا-شيوخنا-أسيادنا-كتاباتنا-حديثنا-ذكرياتنا-تاريخنا-وما يريحنا انه هو ناموس الحياة منذ قديم الأزل إلى أن يرث الله الأرض وما عليها.ولا يعنى ذلك أن ننسى اللحظة والزمن الذي نحن فيه كما ينادي الكثيرون ..بل أن كثيرين يجتهدون في إيجاد علامات النهاية متناسين أنها علم لا ينفع وجهالة لا تضر ومتناسين الحكمة القائلة: (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا ..واعمل لأخرتك كأنك تموت غدا).

  ذهب مع الريح حديثنا عن البيئة والوطن والتاريخ والفن والعلوم لنعيش ونرتقي كما تعيش الشعوب المتحضرة التي أبدعت في تاريخها وأنتجت وأثمرت ما نحن نعيش عليه اليوم حيث كان لهم يوم قالوا فيه:( اليد الممتلئة ببقايا العمل اليدوي والمحمّلة بقلوب وضمائر نظيفة حية ،،،لهي أفضل من الايادي النظيفة مع قلوب ممتلئة وسخا وضمائر ميتة)... وهى اليد التي قال عنها رسولنا الكريم عندما وارى احدهم يده عنه حياءً وحشمة لما علق بها من تراب وبقايا ، فجذبها الرسول الكريم وقبّلها قائلا :(هذه يد يحبها الله ورسوله).. وترتّب على عدم فهمنا لذلك الأمر ونظرتنا إلى ما فوق جبل الثلج،، إهمالنا الواضح لعمال نظافتنا ومجاريها ولمزارعينا ورعاة وموالىّ الإبل والغنم ومربّى النحل ولكل يد تقترب من العمل اليدوي الحرفي بأنواعه وأشكاله بما فيها نسائنا الحرائر اللاتي كنّا يصنعن المسدى والاكليم والبيوت البدوية من بيوت الربيع والصيف المعمولة من بقايا الأثواب والخرق أيام ليبيا لا مال لا فزاعة كما عبر الشاعر مراد البرعصي يوماً، ولأهلنا في تاورغا الذين صنعوا لنا تلك الأشكال الجميلة من بقايا وسعف النخيل التي يأتي خصيصا بعض الأجانب لاقتنائها وتبادلها كهدايا ثمينة بينهم ، ونحن نمر على ذلك السوق في تاورغا طيبة الذكر على الطريق الرئيسي مرور الكرام ، مستعيضين عن تلك القفف الجميلة والفتّات بشكاير النايلون والبلاستيك المضر، ولم نعطها حقها فى السياسات العامة من تطوير وتشجيع والتفتنا بدلا عنها الى تلك الندوات والمؤتمرات متأنقين فى لباسنا بأيادي نظيفة وضمائر يعلم الله كنهها لنتناقش في مواضيع تقع قريبا من النجوم بالنسبة لنا..بلادنا يا قوم خلت او قاربت على الخلو من الحرفيين واليدويين وأهل الأرض الذين لا تصلح حضارة بدونها والذين أنتجوا لنا يوما ما ، قبل النفط ،أنتجوا لنا الحمص والفول والقمح والشعير وزيت الزيتون وتمر العجين والحليب ومشتقاته ورب التمر ورب الخروب والبرتقال والعنب .. بل كانت ليبيا تصدّر فى هذا الإنتاج والحيوانات بأشكالها إلى اليونان وايطاليا ومالطا و بقايا طرق سكك الحديد المتجهة من سفوح الجبل الأخضر إلى موانئ بنغازي شاهد على ذلك ..،و أنتجوا لنا الجرد الجبالى والعباه الليبية والبلغه من صوف أغنامنا وجلودها... واعتقد البعض منا أن هولندا وهى اكبر منتج للحليب ومشتقاته اليوم ، صنعت لنا هذه المشتقات من الهواء ،،أنها صنعتها من حليب أبقار بجانبها هولنديون يعتنقون أحسن الأساليب العلمية لتربية الأبقار والتي تعلموها في معاهد فنية حرفية متخصصة جاذبة لا تقل في جمالها وامكانياتهاعن الجامعات و تحميهم سياسات اقتصادية من دعم وحماية وتشجيع وعندما يقابلون احد هؤلاء المربّين في وسائل إعلامهم تعتقد انه هو نفسه وزيرا للزراعة لأنه يأمر فيطاع باعتباره جندي في ميدان الاقتصاد الذي يعتبر اليوم الجبهة الأولى لمعارك الدول.. ونحن لم يتبقى لنا إلا معارك أسعار النفط ارتفاعا وهبوطا ونفرح للارتفاع ونزعل للهبوط .. ولم نعرف حتى ألان أن معركتنا الحقيقية هي هنا على أرضنا وفى صحرائنا وفى جبالنا وعلى أجيالنا وفى تعليمنا وفى مدارسنا ولشبابنا العاطلين عن العمل الا من حافلات قديمة يقودونها جيئة وذهابا بحثا عن الربع دينار في شوارع كادت تبيد من فرط تدويسها واكتضاضها وإهمالها رافعين صوت إذاعاتهم الحافليه بأغاني عن الهمّ والغمّ والعلم تعبيرا عن احتجاجهم بطريقتهم الوحيدة المتاحة لهم.. ورغم ذلك فهم مستعدون لارتداء لباس العمل بعد أن تتواجد السياسات التي تناسب ظروفنا وثقافتنا مع التشجيع المادي لمزاولة هذه المهن وحريات شخصية يستطيعون فيها التعبير عن رغباتهم المكبوتة والتي بدونها تظهر لنا تلك النزعات من إرهاب وتطرف وانحراف وانتهاء بالتمتيع في الشوارع المكتظة. عندما خرج فاروق ألباز العالم المشهور كاتب مقاله: (الفتى الفلاح فوق القمر) من بلاده وعمل بوكالة ناسا لعلوم الفضاء وأبدع في عمله العلمي ناداه بعض العرب للرجوع للعمل بأرض العرب بعد ان بانت عبقريته في بيئة حرة مُشجعه وحافز سخي ، فرد قائلا ما معناه:(أنا اليوم كبرت ولى ارتباطات بعملي ونصيحتي لكم أن تهتموا بآلاف البازات الصغار عندكم بدلي ، مع استعدادي لمساعدتكم.).

   للتوازن في تركيبة المجتمع الاقتصادية والاجتماعية يجب أن تكون الطبقة الوسطى والحرفية والخدمية هي اكبر الطبقات وهذا لا يتأتى إلا بسياسات اقتصادية وثقافية تترجم إلى فوائد حسية مادية واضحة وصريحة ،، تجذب وتشجع التواجد والعمل بهذه الطبقة..فثقافتنا التي تحتقر العمل اليدوي تحتاج إلى موازنتها بعوامل جذب مادية تشجيعية والتي بحمد الله نملك الكثير منها لدرجة فاضت إلى غيرنا..ففي الولايات المتحدة الأمريكية وكثير من الدول الأوروبية يصل دخل الحرفي إلى ما يعادل دخل غيره من الطبقات الأخرى يعملون بشركات تتيح لهم كافة عوامل التشجيع والمزايا والحفاظ على حقوقهم فلا نقف فقط عند قولنا لشبابنا أن هناك الآلاف من غير الليبيين يعملون بهذه الحرف ونكتفي بدعوتهم بكلمات جوفاء مستعينا بزخرف القول للحلول محلّهم يقولها لهم احد المتأنقين ..إن الأمر يحتاج إلى أكثر من ذلك ..يحتاج إلى دراسات واقعية والى تشجيع مادي واضح وإرساء ثقافة مجتمعية واقتصادية جديدة وحتى وان اقتضى الأمر سبر غور الدول التي سبقتنا فى هذا المجال والاستعانة بخبرتهم وليس فقط الاستعانة بتوصيات المؤسسات الدولية التي توصى باتخاذ سياسات عامة فى مجتمع لا تزل فيه البنية الأساسية الاقتصادية والثقافية ضعيفة..وإلا سيكون مجتمعنا خاليا من طبقة الزرّاع والصنّاع والحرفيين والخدمات ممتلئا بحاملي الشهادات الاكاديميه العليا فيكبر رأس المجتمع ليلتصق بتحته خاليا من الطبقة الوسطى وتكثر النظريات الأكاديمية والبحوث النظرية بلا فائدة تتحول إلى أكداس من الورق المستورد محفوظة في أدراجنا إلى أن ينفذ ما عندنا لينطبق علينا القول (إذا تواجد المال والاهبال ، نفذ المال وبقى الاهبال) ويختل التوازن ويكون حديثنا مكرورا لا فائدة منه لنذهب لا سمح الله جميعا مع الريح...

ولحديثي بقية إن شاء الله .